قد اخترتَ موتَك على موتي، ووجدَ الحِمام أهون من ثكلك لي! فكيف يقول ذلك وهو لو عاشَ لم يكن لثكله له سبب! ولو كان له ما يؤدّيه الى هذا الضّنى الذي ذكره في حياة هذا الميت لكان مثْكولاً وهو حيّ، مُصيباً منه الضّنى ما أصاب المتنبي! قالوا: وما نعرف بيتاً يُقارب هذا الخطأ إلا بيت أبي تمام:
لو لم يمُتْ أطراف بين الرّماح إذاً ... لماتَ إذا لم يمتْ من شدّة الحَزَنِ
قال المحتج: إنكم ذهبتُم عن غرض الرجل، وظننتُم أنه أراد: أنك خفت نزولَ هذا الضّنى بي لأجلِك، وأنت حيّ، ولم يرِدْ ما خطر لكم؛ وإنما مذهبُه فيه أنك خِفتَ أن يصيبني هذا العارضُ من الضّنى وأنت حيّ، فيبلغ منك الغمّ به مبلغ الثّكل، فاخترتَ الحِمام عليه.
فقال الخصم: هبِ الأمرَ على ما قلتُم، ما وجْهُ هذه المخافة؟ وكيف يصيبه ذلك الحزنُ وهو يثكل حبيباً ولم يفقد عزيزاً؟ وما وجْه شفقةِ ابنِ سيفِ الدولة على المتنبي حتى يفدي حزنَه بنفسه، ويختار الحِمام على ثُكلِه؛ على أنه له في ذلك عادات، منها قوله يرثي والدة هذا الممدوح:
بعيشِك هل سلوتِ؟ فإنّ قلبي ... وإن جانَبتُ أرضَكِ غيرُ سالي
وقوله يرثي أخته:
وهل سمعتِ سَلاماً لي ألمّ بها ... فقد أطلَعْتَ وما سلّمْتُ من كثَبِ
وما باله يسلم على الحرم، ويتشوّق الى الأمهات! ومن سبقه الى هذا! وإنما يفعل ذلك من يرثي بعض أهلِه، وأما استعماله إياه في هذا الموضع فدالٌ على ضعف البصر بمواقع الكلام. وما تحقق ذلك فيه قوله: