ثم تكلمت عن التحدى ببلاغته ونظمه فى آيتى يونس [37، 38] ومنه دلالتهما على عجز النبى صلّى الله عليه وسلم عن الإتيان بسورة من مثله كغيره، ومنه وجه التحدى بعشر سور مثله مفتريات، ووجه الإعجاز فى السور القصيرة، وسأعود إلى هذا فى آخر الكتاب.
وأوجّه الكلام هنا إلى هداية القرآن بأسلوبه وتأثيره وعلومه المصلحة للبشر بما يحتمله المقام من البسط والتفصيل، وهو القدر الذى يعلم منه أن هذه العلوم أهدى من كل ما حفظه التاريخ عن جميع الأنبياء والحكماء، وواضعى الشرائع والقوانين، وساسة الشعوب والأمم، وأن إعجازه من هذه الناحية أقوى البراهين على كونه وحيا من الله تعالى تقوم به الحجة على جميع البشر.
فمن كان يؤمن بأن للعالم ربا عليما حكيما مريدا فاعلا مختارا فلا مندوحة له ولا مناص من الإيمان بأن هذا القرآن وحى من لدنه عزّ وجلّ أنزله على خاتم أنبيائه المرسلين رحمة بهم ليهتدوا به إلى تكميل فطرتهم، وتزكية أنفسهم، وإصلاح مجتمعهم من المفاسد التى كانت عامة لجميع أممهم، فيكون اتباع محمد فرضا إلهيا عاما كما قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158].
ومن كان لا يؤمن بوجود هذا الرب العليم الحكيم فهذا القرآن حجة ناهضة على وجوده الحق. بكونه ليس من المعهود فى الخلق. وبما اشتمل عليه من الآيات البينات فى الأنفس والآفاق. فمن لم يهتد إلى فهمها فلا مندوحة له عن الجزم بأن محمدا أكمل وأفضل وأعلم وأحكم من كل من عرف فى هذا العالم من الحكماء الهادين المهديين، ويكون الواجب بمقتضى العقل أن يعترف له هؤلاء بأنه أفضل البشر على الإطلاق. وأولاهم بالاتباع. ولا غرو فقد اعترف له بهذا كثير من علماء الشرق والغرب، سنورد بعض شهاداتهم بعد.