به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لكان ينسى نفسه، وينسى طعامه، وينسى كلّ ما فى الحياة لأن هذا الذى يرى فى الحياة ليس حقا. وهناك كان يقلب فى صحف ذهنه كمل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة واوزارا، وهو لم يكن يطمع فى أن يجد فى قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشد، بل فى هذا الكون المحيط به: فى السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفى الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء وساعات صفوها البديع، إذ تكسوها أشعّة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندى. وفى البحر وموجه! وفى كلّ ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود، وتشمله وحدة الوجود- فى هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا ابتغاء إدراكها. كان يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق شغاف الحجب إلى مكنون سره».
(قال درمنغام): «فلما كانت سنة 610 أو نحوها كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد على أشدها. فقد أبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرا جوهريا ينقصه وينقص قومه، وأن الناس نسوا هذا الأمر الجوهرى وتشبث كل بصنم قومه وقبيلته، وخشى النّاس الجنّ والأشباح والبوارح. وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلهم لم ينكروها، ولكنهم نسوها نسيانا هو موت الروح. وقد خلصت نفس محمد من كلّ هذه الآراء التافهة، ومن كلّ القوى التى تخضع لقوة غيرها، ومن كل كائن ليس مظهرا للكائن الواحد.
ولقد عرف أن المسيحيين فى الشام ومكة لهم دين أوحى به! وأن أقواما غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنهم عرفوا الحق ووعوه أن جاءهم علم من أنبياء أوحى إليهم به. كلما ضل الناس بعثت السماء إليهم نبيا يهديهم إلى الصراط المستقيم ويذكرهم بالحقيقة الخالدة، وهذا الدين الذى جاء به الأنبياء فى كل الأزمان دين واحد، وكلما أفسده النّاس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم. وقد كان الشّعب العربىّ يومئذ فى أشد تيهاء الضلال.
أفما آن لرحمة الله أن تظهر فيهم مرة أخرى وأن تهديهم إلى الحقّ؟».
«وتزايدت رغبة محمّد عن الاجتماع بالناس، ووجد فى وحدة غار حراء مسرة تزداد كل يوم عمقا، وجعل يقضى الأسابيع ومعه قليل من الزاد، وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صقالا وحدّة، ونسى النهار والليل والحلم واليقظة وجعل يقضى الساعات الطوال جاثيا فى الغار، أو مستلقيا فى الشمس، أو سائرا بخطوات واسعة فى طرق الصحراء الحجرية وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجارها تناديه مؤمنة برسالته!».