فإن لم يمنعها عقلها وفطرتها فأجدر ببعلها المصطفى أن يمنعها من ذلك وهو عدو الوثنية والأصنام من طفولته- كما يعترف درمنغام- ولكن اتباع الهوى ينسى صاحبه ما لم يكن لينساه لولاه.
زعم درمنغام أن ما ذكره من تغلغل النصرانية فى بلاد العرب أوجد فيها حالة نفسية أدت إلى زيادة إمعانهم فيما كانوا يسمونه فى الجاهلية التحنث أو التحنف، وزعمه هذا له أصل ولكنه زاد فيه وكبره وفرع عليه قوله:
«وكان محمّد يجد فى التحنث طمأنينة لنفسه أن كان له بالوحدة شغف، وأن كان يجد فيها الوسيلة إلى ما برح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما فى الكون من أسبابها، فكان ينقطع كل رمضان طول الشهر فى غار حراء بحبل أبى قبيس مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ليمضى أياما طويلة بالغار فى التأمل والعبادة بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة».
وأقول: إنّ روايات المحدثين تفيد أنه حبّب إليه الخلاء والوحدة والتحنّث فى غار حراء فى العام الذى جاءه فيه الوحى، وكان هو يحمل الزاد، وما كان أحد يحمله إليه، وما ذكره ابن إسحاق من تعبده فيه فى شهر رمضان كل سنة إنما كان فى زمن فترة الوحى كما سيأتى. ولم يكن فى أعوام ولا شهور قبله.
وأما قوله: إنه كان يتوسّل بذلك إلى ما اشتد شوقه إليه من المعرفة وابتغاء الإلهام مما فى الكون من أسبابها، فهو مما يخطر فى بال الباحث فى حياة رجل صدر عنه عقب هذه الخلوة ما صدر من علم ومعرفة وإصلاح، وإرشاد إلى النظر والتفكير فى آيات السموات والأرض، ولكن لم يرو عنه صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقصد ذلك ويبتغيه، ولا روى عن أصحابه وأترابه الذين كانوا يعرفون سيرته الطاهرة وآمنوا به كأبى بكر وعثمان وعميه حمزة والعباس، ولا عن ربيبه وصفيه وابن عمه علىّ،
ولا حبه ومولاه زيد بن حارثة- رضى الله عنهم-، والتحقيق فى ذلك كله ما تراه فى المباحث الآتية: