ومناة الثالثة الأخرى، تريد أن تفتدى نفسها من ألم الثكل، فلا تفيد القربان ولا تجدى النحور».
قال: «والأمر كان كذلك، لا ريب أن كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع فى النفوس تحت ضغط النصرانية الآتية من الشام منحدرة إليها من الروم، ومن اليمن متخطية إليها من خليج العرب (البحر الأحمر) من بلاد الحبشة».
غرض درمنغام من تكبير المصيبة بموت الأبناء المشكوك فى ولادتهم عنده، هو أن يجعلها مسوغة لما اختلقه من توسل خديجة إلى الأصنام بالقرابين لينقذوها من مصيبة الثكل ثم يستنبط من ذلك زعزعة إيمانها إيمان بعلها بعبادتها التى كان سببها تأثير النصرانية فى مكة وغيرها من بلاد العرب، ثم ليجعل ذلك من الأسباب التحليلية لتعليل الوحى لمحمّد صلّى الله عليه وسلم.
والحق أنه ما تبنى زيدا إلا لأنه أثر أن يكون عبدا له على أن يكون حرا مع والده وعمه عند ما جاءا مكة لافتدائه بالمال فقال لهما: «ادعوه فخيّروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء»، ثم دعاه فسأله عن أبيه وعمه فعرفهما، فقال له: «فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتى لك فاخترنى أو اخترهما» فقال زيد: ما أنا بالذى أختار عليك أحدا، أنت منّى بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟
قال: قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «أشهدوا أن زيدا ابني يرثنى وأرثه»، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما. فدعى زيد: ابن محمّد، حتى جاء الله بالإسلام. رواه ابن سعد ونحوه فى سيرة ابن اسحاق.
هذا وإنّ محمدا لم يكن جزوعا عند موت ولده ولا غيره، بل كان أصبر الصابرين، وإنّ خديجة لم تيأس بموت القاسم من الله أن يمنّ عليها بولد آخر، ولم تنحر للأصنام شيئا، وإن اللات كانت صخرة فى الطائف تعبدها ثقيف ولم تكن من أصنام قريش، والعزّى كانت شجرة ببطن نخلة تعبدها قريش وكنانة وغطفان، ومناة كان صنما فى قديد لبنى هلال وهذيل وخزاعة. وقد كان ما ذكره من ضعف الوثنية فى ذلك العهد- وزعم أن سببه انتشار النصرانية- جديرا بأن يمنع خديجة- وهى من أعقل العرب وأسلمهم فطرة وأقربهم إلى الحنيفية ملة إبراهيم- أن تهاجر إلى الأصنام لتنحر لها وتتقرب إليها لترزقها غلاما (?)،