وأما تنفيذ محمد صلّى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم فى عشر سنين من تاريخ الهجرة الذى كان بدء حياة الحرية له ولمن آمن به، وقد ظل قبلها يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين أولا بالسر، ثم بالجهر مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل والنفى الذى اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة بالتبع له صلّى الله عليه وسلم صار لهم قوة فكان المشركون يعتدون عليهم ويقاتلون فى دار هجرتهم فكانوا فى حالة الحرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب المجاورين له، وكان صلّى الله عليه وسلم عقد لليهود معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده المرة بعد المرة، وظاهروهم بل أغروهم بقتاله، فاضطر إلى قتالهم وإجلائهم من جواره فى الحجاز، وظل المسلمون فى نضال مع المشركين مدة ست سنين، مدافعين عن أنفسهم فى كل قتال دفاع الضعيف- المؤيد من الله- للأقوياء المخذولين، وفى أواخر السنة السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين، ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية، فى سنة ثمان من الهجرة، وحج النبى صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع فى آخر سنة عشر، وأنزل الله تعالى عليه فى يوم عرفة منها: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3].
ففي عشر سنين تم توحيد الأمة العربية التى كانت أعرق أمم الأرض فى الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عزّ وجلّ لرسوله كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62، 63]، وبما أعدّه الله تعالى له من إتمام مكارم الأخلاق، وما وفقه وأرشده إليه من حسن السياسة المبنية فى قوله تعالى:
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع والطاعة والانقياد، لعراقتهم فى الحرية وشدّة بأسهم وعدم ابتلائهم بالملوك المستبدين القاهرين، والرؤساء الروحيين المسيطرين الذين يذللون الأمم ويخضعونها لكل ذى سلطان قوى.
فليدلنا علماء التاريخ العام على نبى من الأنبياء أو حكيم من الحكماء، أو ملك من