الملوك الفاتحين والمشرعين، ربّى أمة من الأمم فى عشر سنين أو عشرين، فجعلها أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية، وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا نشترط أن تكون هذه الأمة التى علمها وهذبها ووحدها رجل واحد كالأمة العربية فى عتوها ولا أن يكون هذا الرجل أميّا كمحمد صلّى الله عليه وسلم.
فأين الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية فى عصر العلوم والفنون والفلسفة والحضارة والقوانين ونظم الاجتماع والحرب، من الوحدة العربية المحمدية فى عهد الأمية والجاهلية؟
بل أين الوحدة الإسرائيلية، فى عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم الوحدة الإسلامية العامة فى عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية؟.
ثم نفّذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بالجمع بهما بين العدل والرحمة، وبأنهم جدّدوا بهما الحضارة الإنسانية ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذّبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة العالم فيها.
ثم كان من قوة هذا الدين فى الحق والفضائل أن عادته جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع قواتها الصليبية- الهمجية منها والمدنية- ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا تزال تحاربه وتبذل الملايين من الدنانير لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل على شعوبه، بجميع أساليب الدعوة المسماة بالتبشير، وبجميع وسائل القوة والنظام، وبمساعدة الملحدين فيه كالقاديانية، وتقترف دولهم وجمعياتهم الدينية فى ذلك من رذائل الظلم والبغى والكذب ما يتبرأ من مثله شرار المجرمين، ولم يستطيعوا له هدما، ولا أن ينصروا مسلما واحدا عرف الإسلام «1».
قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
[التوبة: 32، 33].