الوحي المحمدي (صفحة 133)

(الثانية): مبالغة المسيح عليه السلام فى التزهيد فى الدنيا والأمر بتركها وذم الغنى، حتى جعل دخول الجمل فى ثقب الإبرة أيسر من دخول الغنى ملكوت السماوات.

ونقول: إن هذه المسألة وسابقتها إنما كانتا إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم فى عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم، والغلو يقاوم مؤقتا

بضده.

وكذلك كانت دولة الرومان السالبة لاستقلال اليهود وغيرهم دولة مسرفة فى الظلم والعدوان، والفسق والطغيان.

وأما الإسلام فهو دين البشر العام الدائم، فلا يقرر فيه إلا ما هو لمصلحة الناس كلّهم فى دينهم ودنياهم، وهو فى هذه المسألة ذم استعمال المال فيما يضر من الإسراف والطغيان، وذم أكله بالباطل ومنع الحقوق المفروضة فيه والبخل به عن الفقراء والضعفاء. ومدح أخذه بحقه وبذله فى حقه، وإنفاقه فى سبيل الله بما ينفع الناس ويعزّ الملة ويقوى الأمة، ويكون عونا لها على حفظ حقيقتها واستقلالها.

وسترى فى المقصد ما هو أعظم من هذا فى إصلاحه العالى.

فهذه المسألة وما قبلها مما أكمل الله تعالى به الدين، فيما أوحاه من كتابه إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاتم النبيين، وما كان لرجل أمى ولا متعلم أن يصل بعقله إلى أمثال هذا الإصلاح لتعاليم الكتب السماوية التى يتعبّد بها الملايين من البشر، ولكتب الحكماء والفلاسفة أيضا، فهل الأقرب إلى العقل أن يكون بوحى من الله عزّ وجلّ، أم من نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم؟.

ومهما أنسى من شىء فلن أنسى أول كلمة فى المفاضلة بين فضائل الإسلام والمسيحية طرقت سمعى ووعاها قلبى، أتحسبون أننى سمعتها من أحد شيوخنا الأعلام كالعلامة الشيخ حسين الجسر أو الأستاذ الإمام؟ لا لا، إنما سمعتها من أكبر وجهاء النصارى فى طرابلس الشام (إسكندر كاستفليس) الذى كان قنصل دولتى روسيا وألمانيا معا، جئته من قبل والدى فى مسألة مالية وأنا تلميذ، وكان يسمع أننى عصرى حر الفكر، فلما انتهى الحديث الذى جئته من أجله فتح لى باب الحديث فى الأمور القوميّة والوطنيّة والترقى العصرى، فسمع منى انتقادا لتقصير مسلمى بلادنا وتأخرهم عن غيرهم خلافا لما يرشدهم إليه دينهم، ولم يكن يتوقع هذا منى، فعاملنى بمثل حريتى، وعلى ما كان يصفه به وجهاء بلادنا من التعصب الدينى السياسى لا الاعتقادى، وكان مما قاله هذه الكلمة: إن فى الإسلام فضائل كالجبال وأشمخ وأرسخ، ولكنكم دفنتموها حتى لا تكاد تعرف أو ترى، ونحن عندنا شىء قليل ضئيل ككلمة «حب الله والقريب» فما زلنا نمطه ونمده ونقول الفضائل المسيحية حتى ملأ الدنيا كلها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015