نحن (المسلمين) نؤمن بأن إنجيل المسيح عليه السلام هدى ونور بشهادة القرآن له، وإن كنا لا نعرفه، وإنما نؤمن أنه هداية خاصة مؤقتة .. لا عامة دائمة. وإن الله تعالى إنما أكمل دينه ووحيه بالقرآن. ففضائله أتمّ وأكمل. وأعمّ وأشمل. وأبقى وأدوم.
وأذكر فضيلتين من فضائل الإنجيل يزعم النصارى أن ما هو مأثور عندهم فيهما أكمل وأفضل مما جاء به الإسلام؛ (الأولى): قول المسيح عليه السلام: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، ومن ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر» «1»، ومن المعلوم بالبداهة أن امتثال هذه الأوامر يتعذر على غير الأدلة المستعبدين من الناس، وأنه قد يكون من أكبر المفاسد بإغراء الأقوياء بالضعفاء الخاضعين، وإنك لتجد أعصى الناس لها من يسمون أنفسهم بالمسيحيين.
أمثال هذه الأوامر لا تأتى فى دين الفطرة العام لأن امتثالها من غير المستطاع، والله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]، وإنما قرر القرآن فى موضوعها الجمع بين العدل والفضل والمصلحة. قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40 - 43].
ولا يخفى أن العفو والمغفرة للمسيء إنما تكون من القادر على الانتصار لنفسه، وبذلك يظهر فضله على من عفا عنه، فيكون سببا لاستبدال المودة بالعداوة، فى مكان الإغراء التعدى ودوام الظلم، ولذلك قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35].
فانظر كيف بين مراتب الكمال ودرجاته من العدل والفضل، وكيف استدل عليه بما فيه من المصلحة وحكم العقل، أفليس هذا الإصلاح الأعلى على لسان أفضل النبيين والمرشدين دليلا على أنه وحى من الله تعالى قد أكمل به الدين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، لا يجحده إلا من سفه نفسه فكان من الجاهلين.