القرآن كتاب هداية فعلية، لا كتاب فنّ وعلم نظرى، فهو يرشد متدبّره والمتفقه فيه إلى داعيتى الحق والخير، والباطل والشر من نفسه، وإلى طريق تزكيتها بمحاسبتها على أعمالها، لتغليب الحق والخير على ضدهما، وتجد هذا التهذيب والتثقيف فيه يدور على أمرين فطريين لا يتوقف فهمهما على فلسفة أرسطو ولا ابن سينا. وهو مجاهدة النفس بالتخلى عن اتباع الهوى، والتحلى بفضيلة التقوى، وقد تكرر فيه ذم اتباع الهوى والنهى عنه، وتعليله بأنه يصد متبعه عن الحق والعدل فى زهاء ثلاثين آية، وتكرر ذكر التقوى والمتقين فى زهاء مائتى آية أو أكثر، واكتفى هنا بذكر آية واحدة فى كل منهما.
قال الله تعالى فى عبادة الهوى بعد أن ذكر لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه أتى بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وفضّلهم على عالمى زمانهم، وآتاهم بينات من الأمر-
أمر التشريع- فاختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ثم ذكر له أنه جعله على شريعة من الأمر، وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وهم المشركون الذين لا شريعة لهم، وأعلمه أن الظالمين من الذين تفرّقوا بعد العلم فكان ضارا بهم ومن الذين لا يعلمون بعضهم أولياء بعض، والله ولى المتقين دون كل منهم، وأن هذا القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وأنه تعالى لم يجعل الذين اجترحوا السيئات، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا فى المحيا ولا فى الممات، وأنه خلق السماوات والأرض بالحقّ ولتجزى كل نفس بما كسبت، لا كما يزعم المشركون من تركهم سدى، ولا كما يدّعى أهل الكتاب من كونه تعالى يحابى بعض الشعوب وبعض الناس بأنسابهم؛ أو لأجل من يفديهم ويشفع لهم.
قال الله تعالى بعض آيات فى هذه المعانى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]، وفى معناها من سورة الفرقان:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 43، 44].