وقال تعالى فى ثمرة التقوى للمؤمنين بعد عدة وصايا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]، وقد قلت فى تفسير هذه الآية من جزء التفسير التاسع ما مختصره.
هذه الآية آخر وصايا المؤمنين فى هذا السياق وهى أعمّها، والأصل الجامع لها ولغيرها وكلمة «الفرقان» فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى فى مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هى الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق، ومعناها فى أصل اللغة:
الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمراد بالفرقان هنا: العلم الصحيح والحكم الحقّ فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور فى العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلى الذى يميز الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كل شىء من ذلك، ويعطيه حقه الذى يكون به ممتازا من غيره، وإيراد الأمثلة على ذلك يطول (وقد ذكرنا نموذجا منها فى التفسير).
فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] معناه إن تتقوا الله فى كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرّقون بها بين الحق والباطل، وتفصّلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتميزون بين الحجة والشبهة. وقد روى عن بعض مفسرى السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذى يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصّلناه من الفرقان العلمى الحكمى، وعن بعضهم تفسيره بالبصر يفرق بين المحق والمبطل بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد فى الدنيا ومن العذاب فى الآخرة، وهذا من الفرقان العملى الذى هو ثمرة الفرقان العلمى. ذكر كل منهم ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك، ولم يقصد تحليل المدلول اللغوى، ولا المعنى الكلى الذى هو ثمرة التقوى بأنواعها. وهذا النور فى العلم الذى لا يصل إليه إلا بالتقوى هو الحكمة.
أمر الله تعالى فى مواضع كثيرة من كتابه باتقائه، وباتقاء النار، وباتقاء الشرك والمعاصى، وباتقاء الفتن العامة فى الدول والأمم، وتقدم فى وصايا هذا السياق. وباتقاء الفشل والخذلان فى الحرب، وباتقاء ظلم النساء، وبيّن أن العاقبة فى إرث الأرض للمتقين