على أن بعض المتكلمين قد تأوّلوا صفات الله تعالى بنظرياتهم الجدلية، وبعض الصوفية قد بالغوا فى التوحيد وفهم الصفات أو حملها على الأذواق والوجدانات الروحية، حتى أنكر بعضهم تأثير الأسباب فى مسبباتها، وانتهى بهم ذلك إلى بدعة الجبر التى أفسدت على أهلها كل شىء، وقال بعضهم بوحدة الوجود، بيد أن الأولين منهم كانوا يقولون بما يهديهم إليه النظر العقلى أو رياضة النفس وما تثمره من الشعور الوجدانى مع الاعتماد فى فهم النصوص على صميم اللغة والمأثور عن السلف ثم خلف من بعدهم خلف من المقلدين لا حظ لهم من القرآن ولا من البرهان ولا من الوجدان، وإنما يتبعون أهواء العوام ويتأوّلون لهم بكلام أمثالهم من المصنفين الجاهلين، ولو فقهوا أقصر سورة فى التوحيد والتنزيه كما يجب- وهى سورة الإخلاص- لما وجد الشرك إلى أنفسهم سبيلا.
إن عقيدة التوحيد القرآنى هى أعلى المعارف التى ترقى الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا له من الكمال الروحى والعقلى والمدنى. وقد صرح كثير من علماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم له وانهزام النصرانية من أمامه.
قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذى زكى أنفسهم، وأعلى هممهم، وكملهم بعزة النفس، وشدة البأس، وإقامة الحق
والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم، وإعتاقها من رق الكهنة والأحبار والرهبان والبوذات والموبذانات الروحى والعقلى، وتحريرهم من ظلم الملوك واستبدادهم وإقامة وإحياء العلوم والفنون الميتة وترقيتها فيهم، وقد تم لهم من كل ذلك ما لم يقع مثله ولا ما يقاربه لأمة من أمم الأرض. حتى قال الدكتور «غوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعى الشهير فى كتابه (تطور الأمم) إن ملكة الفنون لا يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال:
أوّلها جيل التقليد، وثانيها جيل الخضرمة، وثالثها جيل الاستقلال والاختصاص، قال: إلا العرب وحدهم فقد استحكمت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدءوا فيه بمزاولتها.
وأقول: إنّ سبب ذلك تربية القرآن لهم على استقلال العقل والفكر واحتقار التقليد الأصم الأعمى، وتوطيد أنفسهم على إمامة البشر وقيادتها فى أمور الدين والدنيا معا، وقد خفى كل هذا على أسلافهم بعد ذهاب الخلافة الإسلامية، وزوال النهضة العربية وتحول السلطان إلى الأعاجم الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا الظواهر التقليدية المنفصلة عن هداية القرآن.