والجواب الثاني: أن العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالاً على علم المخاطب، وأنه يرد كل واحد منهما إلى ما يشاكله، قال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وكلن حقه أن يقول: كأني لم أركب جواداً للذة، ولم أقل لخيلي كري، ولم أسبأ الزق الروي، ولم أتبطن كاعباً، كما قال يغوث:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لأيسار صدق أظهروا ضوء ناريا
وقد تأول قول امرئ القيس على الجواب الأول، وذلك أنه جمع في البيت الأول بين ركوبين: ركوب الجواد وركوب الكاعب، وجمع في الثاني بين سباء الخمر واإغارة لأنهما يتجانسان.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز أن تعمل (إنَّ) في (أنَّ) بفصل، ولم يجز من غير فصل؟
والجواب: أنهم امتنعوا عن ذلك كراهة للتعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة، فأما المتباعدة فلا يقع فيها تعقيد بالاتصال؛ لأنها مبانية مع الاتصال لألفاظها، فذلك جاز {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119] ، ولم يجز: إن إنك لا تظمأ فيها؛ لأنه بغير فصل.
وقرأ نافع وعاصم من طريقة أبي بكر {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح.
فمن كسر عطف على {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ} [طه: 118] ، ومن فتح فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون في موضع نصب عطفاً على اسم (إنَّ) .