ير ذلك الحديث صالحا لأن يخرج في مصافِّ ما يُحتج به في بابه، وأما إن كان مما يَسَعُهُ إغفالُه؛ لإخراجه ما يُغني عنه في بابه، فإن كانا سواء، فقد استغنى البخاري بما خرجه، ولم ير في الثاني مزيدَ فائدة، وإن كان في الثاني ما ليس فيما خرجه، فتَرْكُ البخاري له مع ذلك يُشعر بما قدمنا.
هذا إذا كان نَقْلُ التصحيح لا إشكالَ فيه؛ فإن أكثر مَن نَقل عن البخاري في ذلك هو الإمام أبو عيسى الترمذي، وفي بعض النقولات المروية عنه من طريقه إشكالٌ يحتاج إلى تحرير، وقد وقفتُ لبعض المحققين كابن عبد البر والذهبي على اعتراضات على الترمذي بهذا الصدد، فلم يُسَلِّمُوا بأشياء نقلها الترمذي عن البخاري، بل وشنَّع عليه الذهبي أحيانا.
وقد وقع لي قدرٌ غيرُ قليل من هذه الإشكالات أثناء استقرائي لكتاب "الجامع" مع ترتيب "العلل الكبير" للقاضي، وقيَّدتُّ فى ذلك تحريراتٍ على هذه المواضع، وهي فى جزء، يسر الله إتمامه وإخراجه.
أما إذا لم يُنقل عنه تصحيحُه، فالأمر في ذلك أوضح.
ومن المعلوم لِكل باحثٍ أن البخاري قد أودع اختياراتِه وما يذهب إلى القول به في أبواب العلم المختلفة: فيما بوَّب به، وما خرجه في تلك الأبواب، حتى إنه قد اشتهر بين المحققين أن "فقه البخاري" في تراجمه، فهل بالغ أيضا فى التحري والاحتياط في اختياراته تلك، بحيث لا يمكن أن يُستفاد مما فيها من أحكام ونظر واجتهاد، إلا لمن أراد الاحتياط والتحري البالِغَيْن؟.
الحَقُّ أن هذه النظرة لكتاب "الصحيح" للبخاري قد اخترعها بعضُ متأخري المحققين، ولا أثر لها عند المتقدمين، الذين أخضعوا كتابَه للنقد كسائر الكتب، وإنَّ مما أَكْسَبَ كَتاب "الصحيح" مكانتَهُ: نُدْرَةَ ما صفا للنقاد من تعقباتهم على البخاري فيه، بخلاف غيره من الكتب.