التحري، فهذه مجازفةٌ، تُفقد (صحيح البخاري) أيَّ اعتبارٍ لناظر، أو مجالٍ لباحث، أو متأملٍ لدارس.
فما عساهُ ينفع النظر والبحث والدرس في كتابِ إمامٍ يبالغ في التحري والاحتياط، فلا يُقاسُ على أحكامه، ولا تصرفاته.
هذا لو سلمنا بافتراض أن تكون المبالغةُ في التحري أو شدةُ الاحتياط أمرًا خاصًّا بالبخاري، زائدًا على تصرفات الأئمة في تعاملهم مع النصوص، فهل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد وابن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة، لا يبالغون في الاحتياط في حكمهم على الحديث أو على الرواة؟ وهل لا يوصف الإمام بذلك إلا إذا صنف كتابا في "الصحيح"؟
لقد اتفق المحققون من أئمة هذا الفن على أن الحديث لا يصلح فيه حُسْنُ الظنِّ، وأنَّ مَبْناه على الاحتياط والتحري، فهو أصلٌ فيه، وكُلُّ أحكامهم وقواعدهم تؤيد ذلك وتؤكده، وما حادَ مَن حادَ مِمَّن بعدهم عن منهج النقد إلا بسبب التفريط في هذا الأصل.
وهذا موضوعٌ مِن الأهمية بمكان، وقد حاولتُ بَسْطَ القول فيه في رسالتي "القواعد المهمة فى إحياء مناهج الأئمة"، وهي قَيْدُ الجمع، يسَّر الله إتمامها.
والمقصود هنا أن البخاري قد صنف كتبا عِدَّة منها ما جمع فيه ما احتج به طوائف أهل العلم في بعض المسائل محل النظر، ككتاب "القراءة خلف الإمام" و"خلق أفعال العباد"، ورجح من ذلك ما رآه راجحا.
ومنها ما صنفه ليكون ما يخرجه فيه حجةً بينه وبين الله تعالى، وسماه "المسند الصحيح". فما لم يخرجه فيه، فإن جاء عنه نقلٌ -لا إشكال فيه- أنه صحَّحه، فإن كان مِمَّا لا يَسَعُهُ تركُه؛ لظهور الحاجة إليه في أبوابٍ قد خرجها فى صحيحه، فإنه لم يُغفله -مع وضوح الاحتياج إليه، واستغناء البخاري بالخفي فى ذلك- إلا لأنه لم