فيه مستخرجه وتغلغل إليه مستنبطه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النظم، وسوء التأليف، وهلهلة النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسير ما بينهما من نسب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوره له الغرض، ولا الحسن إلا ما أفاده البديع ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع (?) ".

وهكذا يعتبر القاضي الجرجاني أن النقد الأدبي السليم هو الذي يوجه إلى سلامة النظم، وحسن الترتيب، لا إلى مظاهر الترويق ص 72 ومشاهد التنميق ص 72 ولا إلى ألوان البديع المختلفة، من تجنيس، وترصيع، ومطابقة وهو حريص كل الحرص على تأكيد هذا المعنى، مهتماً كل الاهتمام بمحاولة إبراز ما يدور بخلده عن النظم، ولكنه - كما قلنا - لا يستطيع أن يبين أسباب جماله، وأسرار حسنه، "وقد حملني حب الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادة الفكر له، ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاؤه، واتسع حجمها للاستيفاء له، لاسترسلت فيه، ولأشرفت بك على معظمه (?) ".

ولكن الذي نريد أن نثبته هنا هو: أن المعاني اللطيفة، والدقائق التي تنشأ عن نظم الكلام، هي تلك التي أدركها القاضي الجرجاني بقلبه، ولم يستطع الإفصاح عنها، والتي أدركها تلميذه عبد القاهر بقلبه، وبحث عنها فوجدها وبين أسبابها.

ولم لا؟ ألم يورد القاضي الجرجاني من الأبيات التي استحسنها للبحتري هذه الأبيات:

بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثات ... عزماً وشيكاً ورأياً صليبا

تنقل في خلفي سؤدد ... سماحاً مرجى وبأسا مهيبا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015