فذكر مفعول المشيئة في البيت إنما هو لعدم قيام الدليل عليه، وذلك لأنه لو حذف فقبل: (لو شئت بكيت تفكرا) لم يوجد ما يدل عليه، وأوهم أن المراد بكاء التفكر، مع أن المراد هو: بكاء الدمع.

ومن الأغراض الموجبة لحذف المفعول: دفع توهم السامع - في أول الأمر - إرادة غير المراد، كما في قول البحتري تمدح أبا صقر الشيباني:

وكم ذدت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم

فالشاعر يذكر فضل أبي صقر عليه، من دفعه عنه عاديات الزمن، وحادثات الأيام، فيقول: (حززن إلى العظم) كناية عن بلوغها الغاية في الشدة، فحذف المفعول - كما ترى - ولو ذكره فقال: (حززن اللحم) لجاز أن يدور في خلد السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم، ولم يصل إلى العظم، وهو غير مراد، ولكن المراد أن الحز جاوز اللحم إلى العظم، ودفعاً لهذا التوهم حذف المفعول ليدل الكلام على المقصود من أول الأمر.

يقول الإمام عبد القاهر: (الأصل - لا محالة - حززن اللحم إلى العظم إلا أن بحثه به محذوفاً، وإسقاطه له من النطق، وتركه في الضمير مزية عجيبة، وفائدة جليلة، وذلك أن من حذف الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعاً يمنعه من أن يتوهم في بدء الأمر شيئاً غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم، لجاز أن يوقع في وهم السامع قبل أن يجيء إلى قوله (إلى العظم) أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم، فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم، ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015