نراه على البعد فنحسبه طرائق قِدَدا, ونحسب كل موجة من أمواجه قسما من أقسامه, فإذا دنونا منه لا نرى غيره, ولا نجد لموجة من أمواجه حيزا ثابتا, ولا وصفا معينا.
لا حي في هذا العالم حياة حقيقية إلا ذلك الشاذّ الغريب في شئونه وأطواره وآرائه وأعماله, الذي كثيرا ما نسميه مجنونا, فإن رضينا عنه بعض الرضى في بعض الأحايين سميناه فيلسوفا ونريد بذلك أنه نصف مجنون، فهو الذي يتولى شأن الإنسان وتغيير نظاماته وقوانينه, وينتقل به من حال إلى حال بما يقلب من عاداته ويحوّل من أفكاره.
أي قيمة لحياة امرئ لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه وتذليلها على الرضى بما يرضى به الناس, فيأكل ما لا يشتهي ويصدف نفسه عما تشتهي, ويسهر حيث لا يستعذب طعم السهر وينام حيث لا يطيب له المنام ويلبس من اللباس ما يحرج صدره أو يقصم ظهره, ويشرب من الشراب ما يحرق أمعاءه ويأكل أحشاءه, ويقف على ما يكره ويمشي إلى ما لا يحب, ويضحك لما يُبكي ويبكي لما يُضحك, ويبتسم لعدوه ويقطب في وجه صديقه, وينفق في دراسة ما يسمونه علم آداب السلوك أي: علم الدهان والملق, زمنا لو أنفق عشر معشاره في دراسة علم من علوم الحقيقة لكان