ولا شك أن نصارى العراق والروم مع أهل فارس هم الذين علموا هؤلاء فن الغناء. قال أبو الفرج في كتاب الأغاني (ص3: 84) وقوله حجة في هذا الباب في ترجمة ابن مسحج أنه: "مكي أسود مغنٍ متقدم من فحول المغنين وأكابرهم وأول من صنع الغناء منهم ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب ثم رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم والبربطية والاسطوخوسية (أي تنظيم الأوزان (يوجد سرياني) وانقلب إلى فارس فأخذ به غناء كثيراً وتعلم الضرب. ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب وغنى على هذا المذهب فكان أول من أثبت ذلك ولحنه وتبعه الناس بعد ... وهو الذي علم ابن سريج والغريض".

وجاء له في محل آخر عن الغريض (2: 146) : "قال هارون بن محمد الزيات حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه أن الغريض سمع أصوات رهبان بالليل في دير لهم فاستحسنها فقال له من معه: يا أبا يزيد صغ على مثل هذا الصوت لحناً فصاغ مثله في لحنه: "يا أم بكر ... " فما سمع بأحسن منه" فترى تأثير غناء النصارى والرهبان في الغناء العربي في الإسلام. ولنا ما هو أشهر من ذلك نريد به ترجمة بعض المغنين من الذين ذكرهم أبو الفرج وغيره من كتبة العرب. فمنهم حنين الحيري من فحول المغنين روى أبو الفرج ترجمته (في الأغاني (2: 120_127) وقال هناك أنه من العباديين وأخواله من بني الحرث ابن كعب النصارى كان في أيام بني أمية وهو من أهل الحيرة وكان مغرماً بالغناء فاتصل إلى أن نبغ فيه وفي صناعة العود وكان نسيج وحده في العراق فبلغ خبره المغنين في الحجاز ابن سريج والغريض ومعبد فكتبوا إليه ووجهوا إليه نفقة ليشخص إليهم فخرج إلى الحجاز وسكن في بيت سكينة بنت الحسين بنت علي بن أبي طالب فمات عندها وذلك لأن الناس ازدحموا على سطح بيتها ليسمعوا غناءه فسقط الرواق ومات حنين تحت الردم. وجاء في الفهرست لابن النديم (ص141) أن لاسحاق الموصلي كتاباً في أخبار حنين الحيري.

واشتهر في الغناء في أوائل الإسلام من النصارى غير حنين. منهم عون الحيري وكان عبادياً أيضاً ذكره صاحب الأغاني (2: 125 و10: 135) وذكر برصوما المزمر (5: 34 و46 الخ) وذكر أيضاً بعض الحيريين وبه يثبت قولنا أن للنصرانية في عهد الجاهلية وأوائل الإسلام فضلاً في إشاعة الغناء والموسيقى العامية والمدنية كما أشاعوا بين العرب الغناء والموسيقى الدينية. وكانت طريقتهم في الغناء على النمط القديم المستحسن إلى أن اشتهر في أيام الرشيد أخوه إبراهيم بن المهدي الذي قال عنه أبو الفرج في الأغاني (9: 35) أنه "هو أول من أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقاً إلى الجسارة على تغييره".

الفصل الحادي عشر

العلوم والصنائع بين نصارى العرب

بديهي أن عيشة العرب الساذجة في البوادي تحت الخيم بين الشاء والنوق لا تحتاج إلى علوم واسعة وصنائع راقية. وأحسن ما قيل في ذلك ما ورد في كتاب طبقات الأمم للقاضي أبي قاسم صاعد الأندلسي (حيث بيّن إجمالاً ما كان عليه العرب من البداوة وقلة الاكتراث بالعلوم سواء كانوا من أهل المدر أو أهل الوبر حتى قال إنهم "لم يكن فيهم عالم مذكور ولا حكيم مشهور" على أنه استثنى منهم أهل اليمن وبني حميّر فسلّم لهم بالمعارف الدالة عليها الآثار الباقية من عهدهم وخص منها علم النجوم وعلم الهندسة. وكذلك لم ينكر أن لبقية العرب في عهد الجاهلية وأول ظهور الإسلام إلماماً في مرئيات الفلك والمواقيت والطب. ومعرفة بعض الصنائع. وها نحن نذكر هنا ما يثبت قولنا في نفوذ النصرانية بين عرب الجاهلية من جهة بعض العلوم والصنائع.

1 العلوم بين عرب الجاهلية

كرنا منها في فصل الفنون الجميلة (علم الهندسة) وما كان للنصارى من الفضل في الآثار البنائية الدينية قبل الهجرة وفي أول الإسلام فليراجع. ونضيف إلى قولنا هناك أن النصارى أول من نقل إلى العربية كتب أوقليدوس في الهندسة وذلك في صدر الدولة العباسية نقله أولاً الحجاج بن يوسف بن مطر ثم ثابت بن قرة. فبقي علينا أن نثبت ما أداه النصارى للعرب من الخدم في علوم الطب والنبات والنجوم والفقه. أما الشعر والعلوم اللغوية فسنفرد لها باباً آخر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015