ومثله "زمزم" أي طرّب في صةته خفياً. قال الأعشى في المعنى (شعراء النصرانية ص378) :

لها حارسٌ لا يبرح الدهرَ بينهما ... وإن ذُبحت صلّى عليها وزمزما

وإذا رفع صوته بالدعاء قالوا "سبّح" وأنشدوا:

وما سبّح الرهبانُ في كلّ بيعةٍ ... أبيلُ الأبيلينِ المسبح بن مريما

وإذا تغنى القس بقراءته قيل شمعل. وإذا أطلق صوته بالدعاء قيل جأر. قال ربيعة بن مقروم في وصفه راهباً (الأغاني 19: 92) :

جئار ساعات النيام لربّهِ ... حتّى تخدّد لحمهُ متشمعلِ

(قال) المتشمعل المتغني في تلاوة الزبور. وقال عدي بن زيد النصراني يقسم برئيس دينه:

إنني والله فاقبل حلفتي ... بأبيلٍ كلّما صلّى جأرْ

وقولهم "رجّع الإنجيل" إذا ردد نغماته في حلقه وقد مرّ. ومثله التلحين في قراءة الإنجيل. وجاء في الحديث (إرشاد الأنام للشيخ علي سالم ص19 وفي الجامع الأصغر) : "إياكم ولحون أهل الكتابين. أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى فإنهم كانوا يراعون حسن الصوت ولا يلتفتون إلى المعنى" (كذا) فمن هذا كله ترى ما كان من المقام السني للغناء الديني بين نصارى العرب.

ولمّا ظهر الإسلام وشاع القرآن بين أهله أخذوا قراءته وتلحينه من قراءة وتلحين نصارى العرب. روى الفاكهي في كتاب أخبار أم القرى (ص9) عن عائشة قالت: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة أبي موسى الأشعري فقال: لقد أوتي هذا من مزامير داؤد. وجاء في الحديث في الجامع الأصغر (اطلب إرشاد الأنام للشيخ علي سالم ص17 و19) : "سيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم قلوبهم بقلوب من يعجبهم شأنهم" وروى أيضاً في الحديث: "اقرأوا القرآن بلحون أهل العرب وإياكم لحون أهل الكتابين".

(الموسيقى المدنية) راجت في الجاهلية في دور الملوك من تبابعة وغساسنة ومناذرة. وقد عرف القراء من فصولنا السابقة نفوذ النصرانية بين هؤلاء الملوك الذين تقلدوا في أفراحهم عادات الشعوب المجاورة لهم لا سيما اليونان والفرس والروم والدليل على ذلك ما قاله المسعودي في مروج الذهب (8: 99) : "أن العود عند أكثر الأمم وجلّ الحكماء يوناني صنعه أصحاب الهندسة على هيئة طبائع الإنسان". ثم إن كثيراً من الألفاظ الدالة على أدوات الغناء دخيلة فمما استعاروه من الروم الأرغن (يوجد سرياني) والبربط (يوجد سرياني) والسنطور (يوجد سرياني) والقانون (يوجد سرياني) والقيثار (يوجد سرياني) . وكانوا يأتون بالقيان الروميات وغيرهن كما روى حسان بن ثابت في وصفه لبعض الحفلات التي احتفل بها ملك غسان جبلة بن الأيهم قال (أغاني 16: 15) : "لقد رأيت عشر قيان خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط وخمس يغنين غناء أهل الحيرة" أهداهن إليه إياس بن قبيصة.

ومنه يتضح أن الغناء والأدوات الموسيقية استعارها العرب من الأمم المجاورة لاسيما النصرانية. أما أهل البادية فبقي هذا الفن بينهم في بساطته على موجب معرفتهم الفطرية. وقد شهد على ذلك أبو الفرج في كتابه الأغاني قال يذكر عمر بن الخطاب أول الخلفاء الراشدين ومنفداً قول ابن خرداذبه (8: 139) : "ولا كان الغناء العربي أيضاً عرف في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النصب والحداء وذلك جارٍ مجرى الإنشاد إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسير ورفع للصوت ... وأول من دونت له صنعته منهم (أي من الخلفاء) عمر بن عبد العزيز فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام إمارته على الحجاز سبع ألحان ... ومن الناس من ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصنعة ... ولم يوجد في وقت من الأوقات ولا حال من الحالات اشتهر بالغناء ولا عرف به ولا بمعاشرة أهله ... ومخالفوهم قد أيدتهم أخبار رويت".

وفي أيام بني أمية اشتهر أول المغنين من العرب وهم: أبو يحيى عبيد الله بن سريج المتوفى بالجذام في زمن هشام بن عبد الملك. ثم أبو الخطاب مسلم بن محرز وكان أصله من الفرس. ثم سعيد بن وهب كان أبوه أسود وكان هو خلاسياً مات في أيام الوليد بن يزيد في دمشق. ثم الغريض واسمع أبو يزيد وقيل أبو مروان عبد الملك. وأبو الوليد مالك بن أبي السمح. وسبقهم أبو عثمان سعيد بن مسحج وكان في أيام معاوية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015