على أنهم ذكروا خطيباً آخر وكاتباً بليغاً اشتهر بالكوفة في القرن الأول من الإسلام وكان أسقفاً على نصارى الكوفة وعاقولاء يدعى جرجس أسقف العرب. فهذا كان متعمقاً في درس كتب اليونان ونقل قسماً منها كاورغنون ارسطوطاليس وكتب شروحاً على الأسفار المقدسة وله عدة خطب وميامر لم تزل بين مخطوطات عواصم أوربة كلندن وباريس ورومية يتضح منها ما أتصف به جرجس أسقف العرب من العلم والبلاغة في الخطب الدينية. بيد أن هذه الآثار كلها لم تبلغ إلينا إلا بالسريانية. ومن المحتمل أن عربيتها ضاعت فبقيت ترجمتها السريانية. كانت وفاة جرجس المذكور في أواخر القرن الأول للهجرة.

وممن يجب نظمهم في سلك خطباء النصرانية أولئك السياح والرهبان الذين تكرر ذكرهم في الشعر العربي المروي سابقاً فإنهم لم ينقطعوا فقط إلى الصلاة والزهد بل كثيراً ما كانوا يختلطون بالعرب ويدعونهم إلى نبذ أديانهم الباطلة ويرشدونهم إلى الصلاح بالخطب والمواعظ. كما ورد في تراجم البعض منهم كالقديس هيلاريون والقديس افتيموس بين عرب الشام والقديس جرجنسيوس رسول عرب اليمن وموسى رسول الغسانيين وغيرهم كثيرين سبق ذكرهم. فينبغي إذن القول بأن الخطابة النصرانية الدينية قد أزهرت بين العرب كما أزهرت بين غيرهم من الأمم وأن لم تبلغ إلينا صورتها بسبب آفات الزمان وكوارث الحدثان.

2 الخطابة المدنية بين نصارى الجاهلية

إن كانت الآثار الدينية من خطب نصارى الجاهلية الباقية إلى عهدنا نزرة قليلة فكان أملنا في جمع مآثرهم المدنية أعظم لكلف الرواة بما هو أقرب إلى أخلاقهم وأفكارهم. إلا أنهم ما رووه منها لا يكاد يستحق الذكر أو هو فصول حكيمة ليست خطباً وضعت للإقناع كما لا يخفى هو غاية الخطيب ومحور الخطابة.

ولكن إذا كانت الخطب المروية لا يكاد يعبأ بها إنما نجد في مآثر العرب ما يثبت شيوع الخطابة بين القبائل النصرانية. وأول هذه القبائل وأقدمها قبيلة أياد التي روينا أخبارها وأثبتنا تنصرها (ص 75 76 و 124) عن عدة كتبة. ومنها كان قس بن ساعدة الأيادي المار ذكره. فأياد هذه نسب إليها قدماء العرب البراعة في الخطابة لنا على ذلك شاهد حسن في مديح الشعراء لأياد وذكرهم لخطبائها منها قول الشاعر في وصف خطبهم:

يرمون بالخطب الطوال وتارةً ... وحيَ الملاحظ خيفةَ الرّقباءِ

وصفهم بتطبيق خطبهم على مقتضى الحال تارة بالطول والتصريح وتارة بالوجازة والكناية والإشارة. وقال أحدهم يرثي أبا دؤاد بن جرير الأيادي:

نعى ابنَ جريرٍ جاهلٌ بمصابهِ ... فعمَّ نزاراً بالبكاء والتحوُّبِ

نعاهُ لنا كالليث يحمي عرينهُ ... وكالبدر يعشي ضؤهُ كلَّ كوكبِ

وأضربُ من حدّ السنان لسانهُ ... وأمضى من السيف الحسام المشطَّبِ

زعيمُ نزارٍ كلّها وخطيبها ... إذا قال طأطأ رأسهُ كلُّ مشغبِ

سليل قرومٍ سادةٍ ثم قالةٍ ... يبزُّون يوم الجمع أهلِ المحصَّبِ

كقسّ أيادٍ أو لقيط بن معبدٍ ... وعذرةَ والمنطق زيدِ بن جندبِ

فأثنى الشاعر على أبي دؤاد الأيادي وأطرا بلاغته في الخطابة ثم ذكر أربعة غيره كلهم خطباء وكلهم من أياد. ذكر لقيط بن يعمر الأيادي الذي أنذر قومه غزو كسرى لهم وأرسل إليهم قصيدته العينية التي هي خطبة بليغة حاكت في صدورهم فنجوا من عدوهم. ومنها قوله:

أبلغ أياداً وخلّيل في سراتهمِ ... أنيّ أرى الرأيَ إن لم أعصَ قد نصعا

يا لهف نفسيَ إن كانت أموركمُ ... شَّتى وأحكمَ أمرُ الناسِ فاجتمعا

ألا تخافونَ قوماً لا أبا لكمُ ... أمسوا إليكم كامثالِ الدَّبى سرعا

ما لي أراكم نياماً في بلهينة ... وقد ترون شهاب الحربِ قد سطعا

صونوا جيادكمُ واجلوا سيوفكمُ ... وحدّدوا للقسيّ النَّبل والشُّرعا

يا قومُ لا تأمنوا إن كنتمُ غبراً ... على نسائكمُ كسرى وما جمعا

وقلّدوا أمركم للهِ درّكم ... رحبَ الذراعِ بأمر الحرب مضطلعا

لقد بذلتُ لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا أنَّ خير العلم ما نفعا

هذا كتابي إليكم والنذيرُ لكم ... لمن رأى رأيهُ منكم ومن سمعا

وهي طويلة بليغة. وفيها كما ترى كل صفات الخطابة الحماسية. وقد ذكر في مطلعها بيع قومه النصارى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015