ومما عرض إلى الفقدان تلك البقايا الجليلة أن الخط العربي الذي علمه النصارى لإخوانهم العرب كما أيدنا ذلك بالشواهد لم يكن بعد انتشر انتشاراً كافياً ليحفظ ذلك القلم الحديث كنوزهم الأدبية. ولما جاء الإسلام اتجهت الأفكار إلى الدين الجديد وجعلوا القرآن الكل في الكل لفوز ذويه بقبائل العرب.

هذا مجمل ما يقال عن الخطابة الدينية النصرانية ولكننا لم نيأس من التقاط بعض الحبوب من تلك السنابل المحصودة وبعض الفتات من تلك الموائد الفاخرة.

فمن ذلك خطيب ديني شاع اسمه في بطون بلاد العرب وانجادها أجمع كل أهل البادية من حضر ومدر على أنه كان آية في البلاغة الخطابية نريد به قس بن ساعدة الذي يدل مجرد اسمه على نصرانية وضرب به المثل في أساليب البيان. ولو لم يكن في جزيرة العرب غير قس اشتهر في البلاغة والخطابة لكفى النصارى به فخراً. اماما يروى عنه تأييداً لهذه السمعة العظيمة فأسطر قليلة نقلناها في كتابنا شعراء النصرانية (ص 212 213) وهناك أخبار رويناها على علاتها تثبت رفعة مقامه بين العرب لكنها لا تشفى عليلاً ولا تروي غليلاً. وكذلك أخباره المروية عن كتبه العرب فإنها أقرب إلى أساطير الأولين وخرافات الأقدمين فيقول الرواة هناك أنه أدرك زمن بقايا الحواريين ورأسهم سمعان الصفا وأنه عاش ستمائة بل سبعمائة سنة (ص 216) وأنه بشر بمجيء نبي المسلمين وأن محمد رآه في سوق عكاظ يخطب على جمل له أورق (راجع الشرشي 2: 275) وأشياء أخرى أقرب إلى الترهات منها إلى صحيح الروايات. ولعلهم أصابوا بقولهم أنه "كان أسقفاً على نجران وأنه كان زاهدا في الدنيا يلبس المسموح ويتبع السياح على منهاج المسيح" وكذلك قولهم لأنه "كان يتكئ على عصا في خطبه" (لا سيفاً كما روى البعض) . فإن أساقفة النصارى يمسكون في أيديهم عكازاً وهم يخطبون. وخلاصة الكلام أن قساً كان خطيباً مصقعاً أثر كلامه البليغ في قلوب العرب حتى نسبوا إليه من الأقوال والأعمال ما يرده النقد الصحيح ولا يقبله الذوق السليم. وها نحن نروي ثلث خطب من خطبه فاتنا ذكرها في شعراء النصرانية لا تأييداً لصحتها بل أعلاناً بما تناقله العرب عن قس غثاً كان أو سميناً وهذه الخطب وجدناها في التذكير الحمدونية (نسخة باريس الخطية ص v 84) .

أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر سرور والمعرفة كنز والجهل سفه والعجز ذلة والحرب خدعة والظفر دول والأيام عبر والمرء منسوب إلى فعله مأخوذ بعلمه فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد واستشعروا والجد تفوزوا به ودعوا الفضول يجاريكم السفهاء وأكرموا الجلوس يعمر ناديكم وحاموا عن الحقيقة يرغب في جواركم وأنصفوا من آنفكم يرفق بكم وعليكم بمحاسن الأخلاق فإنها وإياكم والأخلاق الدينية فإنها تضع الشرف وتهدم المجد.

(خطبة) أيها الناس شارفوا بإبصاركم في كر الجديدين ثم أرجعوها كليلة عن بلوغ الأمل فإن الماضي عظة للباقي وبلا تجعلوا الغرور سبيل العجز فتنقطع حجتكم في موقف الله سائلكم فيه ومحاسبكم على ما أسلفتم. أيها الناس أمس شاهد فاحذروه واليوم مؤدب فاعرفوه وغداً رسول فأكرموه وكونوا على حذر من هجوم القدر فإن أعمالكم تطلق أبدانكم والصراط ميدان يكثر فيه العثار فالسلم ناج والغابر في النار.

(خطبة) اتقوا عباد الله وأنتم في همل بادروا الأجل ولا يغرنكم الأمل فكأن بالموت وقد نزل فشغلت المرء شواغله وتركت عنه بواطله وهيأت أكفانه وبكاه جيرانه وصار إلى المنزل الخالي بجسده البالي قد فارق الرفاهية وعاين الداهية فوجهه في التراب عفير وهو إلى ما قدم فقير.

هذه كما ترى حكم أكثر منها خطب. والعجب أن الكتبة السريان المعاصرين الذين استفدنا من تواريخهم عدة أخبار عن العرب لم يأتوا بذكر قس بن ساعدة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015