أماً الخطيب الثاني المذكور فهو عذرة بن حجرة الخطيب الأيادي الذي وصفه الشاعر وشبهه بقس بن ساعدة بقوله:

فإنك ضحاك إلى كل صاحب ... وانطق من قس غداة عكاظها

لكن آثاره الخطابية مجهولة. ومثله زيد بن جندب النعوت بالمنطق أي الخطيب المفوه البليغ فإن خطبه لم تبلغ إلى يدنا. ويروى عنه أنه كان خطيباً وشاعراً معاً.

وكما اشتهرت أياد في الخطابة بين قبائل العرب كذلك قرنوا بها قبيلة تميم وهي أيضاً من القبائل التي غلبت عليها النصرانية كما أدت إليه كتبه العرب (راجع الصفحة 126 من كتابنا) . فمن خطبائهم أكثم بن صيفي بن رباح التميمي. قال ابن نباتة في كتابه سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون (ص 12) أنه "أشهر حكام العرب في الجاهلية وحكمائهم وخطبائهم" وقد جمعوا من كلامه حكماً وامثلاً ووصايا لقومه منها قوله: يا بني لا يفوتنكم وعظي فاتكم الدهر بي. يا بني تميم إن مصارع الألباب تحت ظلال الطمع ومن سلك الجد أمن العثار. ولن يعدم الحسود أن يتعب فكره ولا يجاوز ضره نفسه والسكوت عن الأحمق جوابه....

ومما روي لأكثم خطابه لكسرى لما أوفده إليه النعمان بن المنذر (طلب عقد الفريد لابن عبد ربه 1: 127) قال: "إن أفضل الأشياء أعاليها وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة والكذب مهواة. والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى والعجز مفتاح الفقر وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة وسؤ الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من خافه البريء ... خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة. أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته. حسبك من شر سماعه".

ومن أقواله ما أوصى به أولاده ليبقوا متحدين وضرب لهم مثل السهام المجتمعة:

كونوا جميعاً يا بنيّ إذا اعترى ... خطبٌ ولا تتفرَّقوا آحادا

تأبى القداحُ إذا اجتمعنَ تكسُّراً ... وإذا افترقنَ تكسَّرت أفرادا

ومن خطباء تميم النصارى حاجب بن زرارة أثنى العرب على بلاغته وأوفده النعمان أيضاً إلى كسرى فخطب أمامه مدافعاً عن العرب مستعطفاً لرضاه عليهم (العقد الفريد 1: 127) : "روى زندك وعلت يدك وهيب سلطانك. إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مرتها ومنعت درتها. وهي لك وامقه ما تألفتها مسترسلة ما لا ينتها سامعة ما سامحتها وهي العلقم مرارة وهي الصاب غضاضة والعسل حلاوة والماء الزلال سلامة نحن وفودها إليك وألسنتها لديك ذمتنا محظوظة وأحسابنا ممنوعة وعشائرنا فينا سامعة مطيعة. أن نؤوب لك حامدين خيراً فلك بذلك عموم محمدتنا وأن نذم لم نخص بالذم دونها".

ومن خطباء تميم الذين ذكرهم أيضاً العرب في أواخر الجاهلية وأوائل الإسلام الزبرقان بن بدر وعمر بن الأهتم وعدوهما مع عطارد بن حاجب من أكابر السادات وبلغاء الخطباء وذكروا دخولهم على نبي الإسلام وكلامهم بحضرته (أطلب الأغاني 4: 10 12) وهو لا يدل على كبير أمر لا لفظاً ولا معني إذ لم يدونه كاتب وقت إلقائه وإنما روي بعد نيف ومئة سنة. ويصح هذا أساقفة نجران الوافدين على محمد كما ذكرهم ابن سعد وصاحب الأغاني وغيرهما. فلا يمكنا أن نبدي حكماً في عارضتهم نظراً للقليل المصنوع المروي عنهم. وكذا قل أيضاً عن بقية خطباء العرب الذين اشتهروا بالخطابة فبقيت أسماؤهم وضاع كلامهم. وإنما ثبت قولنا أن الخطابة النصرانية دينية أو مدنية بلغت في الجاهلية مقاماً رفيعاً شهد له التاريخ وأن فقد معظم آثارها.

الفصل الثامن

في التاريخ النصراني بين عرب الجاهلية

إن ما قيل في آثار الخطابة بين نصارى العرب في عهد الجاهلية يصح في آثارهم التاريخية فإنها قليلة جداً كان العرب ظلوا في جزيرتهم معتزلين عن بقية الشعوب المسيحية لم يعرفوا منها شيئاً. وليس الأمر كذلك كما سترى وأنما سبب ندرة هذه المآثر أن أهل الجاهلية لم يدونوا معارفهم في بطون الدفاتر لقلة انتشار علم الخط بينهم فصح فيهم قول المثل "كل علم ليس في القرطاس ضاع".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015