في مصر، ولم تكن المطبعة قد عرفت يومئذ، لم تمض أشهر حتى امتلأت أسواق الوراقين في مدن المغرب بنسخ هذا الكتاب، وابن هشام يومئذ حي، وجعله مثل ابن خلدون موضوعا في مقدمته لذكر ملكة المتأخرين في علوم العربية، وهلم جرا. فالرقي الفكري متصل بالاستقلال السياسي اتصال النتيجة بالمقدمة، ولقد فقدت في الأدوار الأخيرة من العالم الإسلامي أسباب الاتصال بما طرأ من التفكك، ومصير بلاد الإسلام طرائق قددا، تليها دول مختلفة أكثرها خارج عن الإسلام، بل أكثرها عدو للإسلام كاشح يعمل لمحوه من الدنيا، ومن المعلوم أنه لا يعمل للإسلام غير دول الإسلام نفسها. فلا عجب بعد هذا أن يجهل بعضنا مكان بعض وأثر بعض، بل العجب أن تعلم اليد اليمنى باليد اليسرى ونحن على ما نحن عليه من تفكك الأجزاء وتقطع الأوصال، والسياسة كما قلنا هي والأدب شريكا عنان، وفرسا رهان.
وقد أصاب الأستاذ صاحب ((النبوغ المغربي)) في عدم إطلاقه القول على المشارقة أنهم جاهلون بأقدار المغرب، فإنه قيد ذلك بقوله ((إنكار كثير من المشارقة لكثير من مزايا المغاربة))، وفي هذا القيد قد أخرج محرر هذه السطور من هذه الجملة الخاسرة؛ فإني على ما بي من قصور وتقصير، وعيوب تضيق فيها المعاذير، أقدر أن أدعي بحق سبق غيري من جميع أنحاء العالم العربي إلى معرفة مزايا المغرب وأهله، وإيجاب عدم التفرقة بحال من الأحوال بين مغرب ومشرق، أقول هذا من باب التحدث بنعمة الله.
2
عالج السيد عبد الله كنون في صدر كتابه هذا حادثين جليلين هما من أهم حوادث الفتح الإسلامي في العالم، وهما: إسلام البربر، هذه الأمة العظيمة التي لولا دخولها في الإسلام لكانت بلاد شمالي أفريقيا أقطارا معادية للإسلام، مناوئة للعروبة، بخلاف ما هي عليه الآن من الاعتصام بهما وتكوينهما جزءا لا ينفك من أجزاء العالم الإسلامي، ولا يقل شأنا فيه عن مصر، والشام، وجزيرة العرب، والأناضول، وفارس، وهلم جرا، بل حصنا منيعا تتكسر على جوانبه هجمات الأمم التي لا تطيق وجود الإسلام في الأرض. وكذلك حادث استعراب البربر الذين أصبحوا بتأثير الدين