كان هو مهد هذه الحركة الأدبية الذي فيه نشأت، ومنه درجت، فما ظنك بما تكون عليه من قوة المادة والروح؟

نعم، وقد كان هذا الوسط يغري كثيراً من ذوي الشخصيات الأدبية الكبيرة في إفريقية والأندلس فيؤمون الحضرة الفاسية، ويستوطنونها ناسين بما يلقونه فيها من التجلة والإكرام، أوطانهم الأصلية ومعاهد شبابهم الأولى، وعلى رأس هؤلاء ابن خلدون وابن الخطيب وابن جزي وغيرهم ممن سبقت الإشارة إلى بعضهم. وقد كان انتقالهم إلى المغرب في هذا العصر طوعاً ومن تلقاء أنفسهم، بل اختياراً وإيثاراً له على أوطانهم لا كما كان في العصر السابق كرهاً واضطراراً، لأن عاصمة الدولة ومقر السلطة المركزية كان في مراكش، فلا معدي لذوي المصالح وأرباب الكفايات من اللجوء إليها ولا كذلك في هذا العصر، فإن قيام دولة بني نضر في غرناطة، والدولة الحفصية في تونس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان كان حرياً أن يصرف وجه النخبة من أبناء هذه البلاد عن المغرب، مع أن الأمر كان كما قلنا بالعكس، فما ذلك إلا دليل على أن الجو الأدبي في المغرب هو الذي كان يستميلهم إليه.

والحاصل أن في هذا العصر بلغ الأدب المغربي كماله، فتخلص من سائر التأثيرات الأجنبية عن النفس المغربية، وشق لنفسه طريقاً نحو الغاية المقصودة، وهي سد حاجة تلك النفس الظامئة إلى حياة أدبية حرة تتمثل فيها عواطفها ومشاعرها وسجاياها ومزاياها مصورة بصورة طبق الأصل لا رياء فيها ولا تصنع ولا ادعاء ولا تقليد؛ فبلغ تلك الغاية وأوفي عليها بمزيد التفنن والإبداع، ولا سيما في الشعر الذي حمل الطابع المغربي وحده منذ هذا العصر، فتجد الحقيقة فيه تسبق الخيال، والطبع يغلب الصنع والقصد إلى الوضوح أكثر من التعمق، والرقة والجزالة والسهولة في غير ضعف ولا غرابة ولا فسولة ولا ننس وصف الشاعر ابن زمرك لطريقة أدباء المغرب بأنها عربية، وهو الذي نقلناه في الكلام على الحياة الأدبية في العصر السابق، ويكفي أن في هذا العصر نبغ ذلك الشاعر الذي يحق أن يقال عنه، إنه شاعر المغرب الأكبر، ونعني به مالك بن المرحل الذي طبقت شهرته العالم العربي على رغم ما مني به أدباء المغرب من خمول الذكر، والذي لم يسع ابن خلدون إلا أن يعترف بشاعريته

طور بواسطة نورين ميديا © 2015