تنبيها على أن لكل واحد من هؤلاء القوم هوى من غير هوى الآخر، ثم هوى كل واحد لا يتناهى، فيسلك كل منهم فجا غير فج الآخر، ولا يتناهى حيرتهم وضلالهم أبدا، فلا يتفق كلمتهم.
وفيه: (كما يتجارى الكلب بصاحبه ..) الكلب: داء يعتري الإنسان من عضة الكلب الكلب، وهو الذي يأخذه شبه جنون فيكلب بلحوم الناس، فإذا عقر إنسانا كلب، ويستولي عليه شبه الماليخوليا، لا يكاد يبصر الماء، وإذا أبصره فزع، وربما مات عطشا ولم يشرب، وهذه علة تستفرغ مادتها على سائر البدن، ويتولد منها أعراض رديئة وإنما شبه حالهم بحال صاحب الكلب؛ لاستيلاء الأهواء عليهم استيلاء تلك العلة على صاحبها ولما فيها من المعرة المعدية، ولما يتولد منها من المضرة المردية، ولتنفرهم من العلم، وامتناعهم من قبوله تنفر صاحب الكلب عن الماء، وامتناعه عنه حتى يهلك عطشا، فكذلك هؤلاء يمتنعون عن قبول العلم، مع امتساس حاجتهم إليه، حتى يهلكوا جهلا في مهواة البدعة، وتيهة الضلال، أعاذنا الله وسائر المسلمين عن الهوى المتبع، والسلام.
[131] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر- رضي الله عنه- فقال: (إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا) يهود: لا ينصرف، والسبب فيه العلمية؛ لأنه يجري في كلامهم مجرى القبيلة، قال الشاعر:
فرت يهود وأسلمت جيرانها .... صمى لما فعلت يهود صمام
وقال الزمخشري: الأصل في يهود ومجوس أن يستعملا بغير لام التعريف؛ لأنهما علمان خاصان لقومين كقبيلتين، وإنما جوز تعريفهما باللام، لأنه أجرى يهودي ويهود مجرى شعيرة وشعير.
وفيه: (أمتهوكون أنتم)) أي: متحيرون والتهوك التحير، وهو أيضا مثل التهوز، وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة. وفيه: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) الضمير للملة. ووصفها بالبياض؛ تنبيها على كرمها وفضلها؛ لأن البياض لما كان أفضل لون عند العرب عبر به عن الكرم والفضل، حتى قيل لمن لم يتدنس بمعاب هو أبيض الوجه. ويجوز أن يحمل على هذا النحو من المعنى قوله- سبحانه-: {بيضاء لذة للشاربين} و (نقية)، قريب من هذا المعنى، ويحتمل أن المراد منها كونها مصونة عن التبديل والتحريف، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلى أنه أتاهم بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى عنه مظنة للتحيز، سيما وقد شهد التنزيل على نقلة تلك الأحاديث بالفسق بالأعلى والفرية، فلا يؤمن عليهم أن يدسوا في تلك الأحاديث ما يلبس على المؤمنين أمر دينهم.