قلت: قد تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها من هذا الباب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفرداً)، وفي حديث أنس: (أنه كان قارناً)، وذلك قوله: (وإنهم ليصرخون بهما جميعاً الحج والعمرة)، وأراد بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل معه بما أهل هو به، وقد بين ذلك في حديث آخر، وهو حديث صحيح: قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك عمرة وحجاً معاً).
وفي الصحاح: (أن بكر بن عبد الله المزنى وهو الراوي عن أنس رضي الله عنه [أخبر] بهذا الحديث ابن عمر، فقال: (لبى بالحج وحده)، قال: فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما تعدونا إلا صبياً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لبيك عمرة وحجا معاً).
قلت: والتوفيق بين هذه الروايات مشكل ولابد منه، فإن ترك هذه الروايات على حالها من الاختلاف من غير بيان جامع بينهما مجلبة للشك في أخبار الصادقين، وقد طعن فيها طائفة من الفئة الزائغة عن منهج الحق، فقالوا: اتفقتم أيتها الرواة على أن نبيكم لم يحج من المدينة غير حجة واحدة، ثم رويتم أنه كان مفرداً، ورويتم أنه كان قارناً، ورويتم أنه كان متمتعاً، وصيغة هذه الأنساك متباينة، وأحكامها مختلة وتزعمون أن كل هذه الروايات مقبولة لصحة أسانيدها وعدالة رواتها!!
فأجاب عن ذلك جمع من العلماء، شكر الله سعيهم، وقد اخترنا عن ذلك جواباً نقل عن الشافعي- رضي الله عنه- وزبدته:
أن من المعلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به، كجواز إضافته إلى الفاعل له، كقولك: بنى فلان داراً: إذا أمر ببنائها، وضرب الامير فلاناً: إذا أمر بضربه.
ومن هذا الباب: رجك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً، وقطع يد سارق رداء صفوان به أمية، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل منهم يصدر عن أمره وتعليمه، فجاز أن يضاف كل ذلك إليه.
وقولاً ذكره الخطابي، قال: يحتمل أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحجة، وخفى عليه قوله: وعمرة، فحكى أنه كان مفرداً فلم يحك إلا ما سمع، وسمعه آخر يقول: لبيك بحجة وعمرة، فقال: كان قارناً، ولا ينكر الزيادات في الأخبار كما لا ينكر في [...] قلت: وأكثره [31].