الذي بين الجزئين، ويجعل لهم مثالاً فيفهمواً به التفاوت (1/أجـ 2) الذي بين القسطين؛ قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الأولى فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمة في الدارين على الأقسام المذكورة تنبيهاً على المستعجم، وتوفيقاً على المستبهم، ولم يرد به تحديد ما قد جل عن الحد، أو تعديد ما تجاوز عن العد.
[1632] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله ...) الحديث. المشكل من هذا الحديث قوله: (لئن قدر الله عليه ليعذبنه)، ولقائل أن يقول: معناه: لئن ضيق الله عليه الأمر بالمؤاخذة والمعاتبة، من القدر لا من القدرة، قال الله تعالى: {ومن قُدِرَ عليه رزقه}، أي ضُيق، غير أن هذا الحديث روى من غير وجه وفي وجه وفي بعض طرق الصحاح: (فعلى أُضِلّ الله) يريد: فلعلي أفوته. ومنه قولة تعالى: {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} أي لا يفوته. وقوله هذا [ينبئ] انه أراد التمنع بالتحريق عن قدرة الله عليه في هذا، ونحن وقد علمنا من سياق الحديث، أنه لم يكن من منكري البعث، وأخبرنا الصادق المصدوق صلوات الله عليه بأن الله غفر له فنحن ملجأون بأن نشهد له بالإيمان وأن الله لا يغفر لمن يشرك به، مع دلالة الكلمتين -أعني (لئن قدر الله عليه) وقوله: (فلعلي أضل الله) على أنه كان جاهلاً بصفتين من صفات الله: العلم والقدرة، فلابد من وجه يسلم لنا معه القول بإيمانه. وقد سبق الأولون في بيانه بتأويلات لم تترك للآخرين مقالاً، ونحن ذاكرون منها ما هو أوجه وأنفى للشبهة.
فمنه قولهم: إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك فلم ينشر، ولم يعذب، وأما تلفظه بالكلمتين؛ فلأنه كان جاهلاً بذلك. وقد اختلف في مثله: هل يكفر أم لا؟ بخلاف الجاحد للصفة. ومنه أن كلامه هذا ورد مورد التشكك فيما لا يشك فيه، وله نظائر في كلام العرب، وهو المسمى عند أهل البلاغة يتجاهل العارف، وبه تأولوا قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك}.
قلت: ويقرب من هذا الباب قول الحواريين: {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء}.
ومنه أن الرجل لقي من هول المطّلع ما أدهشه وسلب عقله، فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره، فبادر يسقط من القول، وأخرج كلامه مخرجاً لم يحصله [.....] ويعتقد حقيقته، وهذا أسلم الوجوه من المعارضات، وأحقها عندي بالتقديم.