وتفرّدها بالخاصية التي لم يشاركها فيها سورة ثم لاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع قصرها ووجازة ألفاظها ولذلك سميت أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله ومن التعبُّد بالأمر والنهي والوعد والوعيد ثم إنها فاتحة الكتابة وفاتحة القرآن في الصلاة وهي الشافية والوافية وسورة الحمد، والحمد [أعلى] مقامات العبودية وإلى هذا المعنى أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ([يدي لواء الحمد يومَ القيامة آدم ومَن [171 / أ] دونه تحت لوائي] وإنما يؤتي لواء الحمد؛ لأنه أحمد الحامدين ولا منزلة فوق ذلك ومنه اشتق اسمهُ وبه فتح كتابه وبه خُتم حاله ووصف مقامه وهو المقام الذي لا [يقوم] أحد غيره.
وفيه (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) قَد علمنا من هذا القول أن المراد من قول الله {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} هو التعريف لموقع منة الله عليه بهذه السورة، ولقد سلك المفسرون في بيان الآية مسالك شتى أقومها وأسدها وأوضحها وأولادها ما ورد بمصداقه الحديث فإن قيل ففي الحديث السبع المثاني، وفي الكتاب سبعًا من المثاني فنشأ بها اختلاف بين الصيغتين إذا جعلنا (من) للبيان فإن قيل فإن كثيرًا من المفسرين ذهبوا إلى أنها للتبعيض ويؤيد هذا الوجه قول الله سبحانه: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} والمراد منها سائر القرآن.
قلنا الحديث الصحيح الذي نحن فيه يحكم عليهم بخلاف ما ذهبوا إليه والبيان إذا صدر من صاحب التنزيل وثبت لم يبق للمفسر قول وأما ما ذكر من مفهوم الآية فليس فيه ما ينافي معنى الحديث على ما ذكرناه لأن من الجائز أن يقال للقرآن مثاني جملة واحدة وللفاتحة على الانفراد مثاني، كما قيل لها القرآن، وهي من جملته فإن قيل كيف يصح عطف القرآن على السبع المثاني وعطف الشيء على نفسه مما لا يكاد يصح؟
قلنا: ليس من باب عطف الشيء معلى نفسه وإنما هو باب ذكر الشيء بوصفين أحدهما معطوف على الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي الجامع لهذين النعتين وقوله: (السبع) بيان لعدد آياتها.
وقد اختلف المفسرون في تفسير المثاني، فمنهم منَ يذهب إلى أنها من التثنية. ومنهم من يذهب إلى أنها من الثنا جمع مَثناة أو مثنية صفة للآية، وقد قيل في تأويله على القول الأول أنها يثنى على مرور الأوقات: يكررّ فلا ينقطع ويدرس فلا يندرس وقيل لما يثنى ويتجدد من فوائده حالاً فحالاً وقيل: لاقتران آية الرحمة بآية العذاب وعلى هذا [171/ب]. فأقول ومما يشهد عليه القرآن من هذا القبيل وينخرط في سلك المثاني حقوق الربوبية وأحكام العبودية وبيان سبيلي السعادة والشقاوة ومصالح المعاد والمعاش وذكر الدارين ووصف المنزلين، وإن ذهب ذاهب في تأويلها إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وما من آية إلاّ ولها ظهر وبطن) لم نر إلا تصويبه وأما الذي يذهب إلى أنها من الثناء فلاشتماله على ما هو ثناء على الله تعالى فكأنها تثنى على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أو لأنها أبدًا تدعو بوصفها المعجز من غرابة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم إلى من يتعلمها ويعمل بها ويتلوها ويعلمها والمثاني فيما ورد به الحديث أنها الفاتحة محتملة لوجهين سوى ما ذكرناه، أحدهما أنها: سميت مثاني؛ لأنها يكرر في الصلاة، والآخر لاشتمالها على قسمي الثناء والدعاء ويقرب عن ذلك ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ... الحديث) وقد مر فيما تقدم مبينا مشروحًا.