قلت: أمثال هذا- وإن عز الوقوف على حقيقة معانيها، وقصرت الأفهام عن تقدير التناسب بين ألفاظها ومبانيها؛ لأنها من جملة الرقي والعزائم التي أكرم الله تعالى بعلمها الأنبياء ومن اختص بهم من الأولياء دون العموم من المؤمنين. وردت ألفاظ منغلقة نافرة عن الأفهام؛ لأنها لم توضع للعمل بها، والاستنباط منها، بل وضعت للتلفظ بها تيمناً وتشفياً، وربما وقع شيء من معانيها في القلوب السليمة الوافقة لاستماع كلام النبوة بمرصاد الأدب والحرمة، وقد علمنا من غير هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - 127] /أ [: كان يبل أملة إبهامه اليمنى بريقه، فيعها على الأرض؛ ليلزق بها التراب، ثم يرفعها ويشير بها إلى السقيم، وذلك قول عائشة- رضي الله عنها- قال بإصبعه.
وقوله: (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا بريقة بعضنا أي: معجونة بها، أو مخمرة؛ فالذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله: (تربة أرضنا) إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، و (ريقة بعضنا) إشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان؛ فكأنه يتضرع بلسان الحال، ويعرض بفحوى المقال: أنك اخترعت الأصل الأول من طين، ثم أبدعت بنيه من ماء مهين؛ فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته، وتمن بالعافية على من استوي في ملكك موته وحياته.
وقوله: (ليشفى سقيمنا): أي: قلنا هذا القول، أو صنعنا هذا الصنيع؛ ليشفى سقيمنا.
فإن قيل: صحت المناسبة بين التربة وفطرة الإنسان، فما وجه المناسبة بين الريقة والنطفة؟:
قلنا: هما من فضلات الإنسان؛ فعبر بأحدهما عن الآخر؛ لما في الآخر من القذارة، وكان من هديه التنزه عن الإفصاح بأمثال ذلك، والتعبير عنها بالكنايات ما أمكن؛ ونظير ذلك ما ورد في حديث بشر بن الخصاصية رضي الله عنه: (أنه - صلى الله عليه وسلم - بصق على كفه، ثم وضع عليه إصبعه ثم قال: يقول الله- عز وجل: (ابن آدم، أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه) وأراد بها النطفة؛ فكذلك في هذا الحديث.
[1051] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أعيذكما بكلمات الله التامة):