دون أن يدرك سرها، ونما هذا الإحساس فى نفسه كما تنمو البذرة الجيدة فى الأرض الطيبة، حتى إذا درس فنون النقد الأدبى فيما بعد، راجع كتاب الله فرأى من فنون الإعجاز ما لم يحم حوله أحد من السابقين، وهو التصوير الفنى للقرآن، وقد شرح وجهة نظره فى ذلك فقال:

«إن التصوير الفنى هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهنى، والحالة النفسية، ثم عن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى، والطبيعة البشرية، ويرتقى بالصورة التى رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجدّدة، فإذا المعنى الذهنى حركة أو هيئة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج النفسى شاهد حىّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية، أما الحوادث والمشاهد، وأما القصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت كل عناصر التخيل، فما يكاد يبدأ العرض، حتى يحيل السامعين نظّارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذى وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة، إنها الحياة هاهنا، وليست حكاية الحياة» (?).

وقد وفّى الشهيد- رحمه الله- بما وعد، والاستشهاد الكامل متعذر هنا، ولكنّنا ننقل مثلا تطبيقيا لسورة من قصار السور، التى ربما حسبها البعض سجعا مرصوفا، وهى سورة الفلق، إذ قال عنها المؤلف:

ما الجو المراد إطلاقه هنا؟ إنه جو التعويذة بما فيه من خفاء وهيمنة، وغموض وإبهام، فاسمع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) (?) فما الفلق الذى يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر لأنه أنسب فى الاستعاذة من ظلام ما سيأتى، ممّا خلق، ومن الغاسق، ومن النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015