والاستعارة وغيرها من الأبواب إلا بعد أن عرض لهم الجاحظ فنونا مترفة من استشفافه الذوقى لكتاب الله، ولن نرسل القول إرسالا دون شواهد صريحة توضح ما نعنيه. (?).
أجل تحدث الجاحظ عن ألفاظ القرآن حديثا لم يسمع من أحد قبله إذ قال فى الباب الأول من البيان والتبيين: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب، أو موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة، وكذلك المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا، والجارى على أفواه العامة غير ذلك. (?)
وقد جاء من بعد الجاحظ من كشف عن أسرار هذه الكلمات، وحسنها فى موضع، وعدم لياقتها فى موضع آخر اقتداء بكتاب الله ورجوعا إلى البيان والتبيين فى الإسناد.
أما حديث الجاحظ عن الصورة البيانية فى القرآن فقد كثرت أمثلته، وكتاب الحيوان بالتراث معرض رائع لهذا الحديث، واكتفى بمثل واحد من هذا المجال: قال الجاحظ تحليلا لقول الله عز وجل طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (?) «زعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم، فقال أهل الطعن والخلاف: ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فتتوهمه، ولا وصفت لنا صورته فى كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شىء أبلغ فى الزجر من ذلك لذكره، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شىء هائل قد عاينوه ...
إلى أن قال: قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان، حتى صاروا يضعون ذلك فى مكانين، أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر: أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الجميلة شوهاء والمرأة الجميلة صماء