فتشعر هذه القراءة بأن القوم فى بعض أوقاتهم استعظموا الكسب الذى يحصل عليه موسى وأخوه- وهو الكبرياء فى الأرض على ما توهموا أنه غرضهما- لو نجحا فى صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. فأفادت القراءتان معنيين، واستوفتا حالتى القوم اللتين اعتبرت كل حالة منهما القوم فى بعض الأوقات. ويجوز وجه آخر، وهو أن تكون قراءة التأنيث مفيدة لحالة فريق من القوم استصغر ثمرة الدعوة، وقراءة التذكير مفيدة لحالة فريق آخر منهم استعظمها- على الوجه المذكور فى الاستصغار والاستعظام.
وهذه المعانى، وهذا الاستيفاء للأحوال، والأوقات، والجماعات من البلاغة بمكان.
- وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ الأنعام:
115) (قرئ كلمة ربك) بالإفراد، و (كلمات ربك) بالجمع (?). (فالانفراد على إرادة الجنس) (?)، وهو معنى يقصده المتكلم.
(والجمع لتنوع الكلمات الربانية أمرا، ونهيا، ووعدا، ووعيدا) (?). وهو معنى آخر من مقاصد الكلام. وكل هذا يعدّ من التوسعات البيانية، ومن التخفيف النفسى حيث لا حبس على وجه واحد. وليس ممّا تختلف فيه لهجات العرب. وقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ بالجمع وجها واحدا فاتفق معه الجمع فى القراءة الثانية، إذ الجمعان بمعنى واحد.
والإفراد فى القراءة الأولى ينوب عن الجمع؛ لأنه اسم جنس. وكل قراءة على انفرادها جاءت على أسلوب فصيح، واجتماعهما على موضع واحد أمر يمتاز به القرآن الكريم فى إيجازه وبلاغته الفائقة (?).
- وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء: 94) قرئ (السلم) بدون ألف بعد اللام، وقرئ (السلام) بالألف (?). (وفسّر من ألقى السلم بأنه من استسلم فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام. وفسر من ألقى السلام بأنه من أظهر تحية الإسلام، وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول فى الإسلام) (?).
إلى غير ذلك من قراءات كثيرة ذات معان شريفة وفيرة.
وبهذا قدمنا صورة- وإن كانت مصغرة جدا- لأثر القراءات فى بلاغة القرآن، وإعجازه. ولم يظهر أثرها فى علم البلاغة لوجهين: أحدهما: الاكتفاء بعلم إعجاز القرآن (?)، والآخر: أن علم البلاغة يقدم قواعد يستثمرها من يستطيع فيأتى بالكلام