والقراءة بالفتح تحتمل الإشارة إلى دليل الإعجاز، وهو أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التى نسرد عليكم أسماء بعضها، وهى حروفكم وهو يتحداكم أن تأتوا منها بمثله، وأنتم الفصحاء، ومع ذلك عجزتم ولجأتم إلى السيوف والدماء بدلا من مقارعة الحجة بمثلها لو كنتم تملكونها. هذا معنى.
وتحتمل أنها تخفيف (طأها) بإبدال الهمزة ألفا، فتفيد معنى آخر، وهو الحكم بوضع الرّجل المرفوعة على الأرض، وترك ما يبلغ حد المشقة الداعية إلى المراوحة بين الرّجلين (?) من طول القيام فى صلاة الليل (?).
فلم تقتصر الفائدة على كون الفتح والإمالة من لغات القراءات ذات النهوض بالمستوى اللغوى- إلى آخر ما سبق- بل جاءت الثمرة، تلو الثمرة.
وهذا مع جملة ما يندرج تحت عنوان (أثر القراءات) أخذناه عن سلفنا الذين قالوا- بسببه: (إن القراءات من وجوه الإعجاز، وكماله، ومحاسنه) (?).
- وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (العنكبوت: 57) قرئ بالخطاب والغيبة (?). والخطاب للمؤمنين، وهو وعد لهم بحسن الجزاء، والغيبة يحتمل فيها أن تكون الواو للكافرين المعادين للمؤمنين، ويكون الكلام وعيدا لهم، وأن تكون الواو لكل نفس، ويكون الكلام وعدا للمؤمنين ووعيدا لغيرهم (?). وهذا من تعدد الأساليب، وتعدد المعانى، ومن فنون البلاغة العالية.
- وقوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (يونس: 78) قرئ (وتكون) بالتاء، وبالياء (?). والقائلون قوم فرعون، والمراد من المثنى موسى وهارون- عليهما السلام (?).
والقراءة بتاء المؤنث لأن (الكبرياء) مؤنث- وإن كان تأنيثه مجازيا. هذا هو الأصل المتعارف فى لغة العرب (?). ثم إن اللغة صدى لما فى النفس وتصوير لشعورها، والمؤنث فى المخلوقات ضعيف عادة بالقياس إلى المذكر، فالقراءة الأولى تشعر بأن القوم فى بعض أوقاتهم هوّنوا من شأن الكبرياء تزهيدا لموسى وأخيه فى ثمرة لا تستحق عناء محاولتهما المستحيل وهو ترك ما وجدوا عليه آباءهم، وعناء العداوة التى تتأجج بسبب تلك المحاولة. وهذا على ما يتصورون من أن غرضهما هو الحصول على الكبرياء فى الأرض. والقراءة بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقى فضلا عن أنه مفصول عن الفعل بقوله (لكما) (?). وتذكير الفعل مع المؤنث المجازى يكون للتعظيم والتفخيم (?).