والتأويل الأخير أصح من الأول؛ لأن قوله:

«أنزل علىّ آنفا». يدفع كونها نزلت قبل ذلك.

بل نقول: نزلت تلك الحالة، وليس الإغفاءة إغفاءة نوم، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا (53). وكذلك قال الإمام السيوطى عند ذكر الوحى المنامى: (وليس فى القرآن من هذا النوع شىء فيما أعلم) (?).

ومن ثم: يترجح أن القرآن الكريم قد نزل كله على النبى صلّى الله عليه وسلم فى حالة اليقظة ولم يكن شىء من الوحى القرآنى مناما.

والخصيصة الثانية: أن القرآن الكريم كله من قبيل ما اصطلح عليه علماء التنزيل ب (الوحى الجلى)، فكما أنه لم يقع شىء من الوحى القرآنى مناما كذلك لم يكن شىء منه من قبيل الإلقاء الإلهامى الذى يقذف فى القلب، مع أنه يكون على وجه من العلم الضرورى الذى لا يداخله الشك أو الاشتباه، ولكن الحق- تعالى- جعله من قبيل التكليم الظاهر؛ للمبالغة فى توثيقه على أكمل وجه وأوضحه (?).

ولسنا- من هذا المنطلق- مع قول من زعم أن الوحى القرآنى لم يكن شىء منه من قبيل التكليم الشفاهى من الحق- تعالى- لرسوله صلّى الله عليه وسلم كفاحا من غير حجاب ولا واسطة ملك، فقد ذكر الإمام السيوطى أن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا ليلة المعراج، كما عدّ من هذا النوع أيضا: بعض سورة (الضحى)، وأَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؛ واستدل بحديث ابن مسعود- الذى أوردناه فى الصورة الثامنة للوحى، وبما أخرجه ابن أبى حاتم من حديث عدى بن ثابت عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال:

«سألت ربى مسألة؛ وددت أنى لم أكن سألته؛ قلت: أى ربّ، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلّمت موسى تكليما؟ فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت؟ وضالا فهديت؟ وعائلا فأغنيت؟ وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى؟» (?).

كما نقل عن الهذلى أنه قال فى «الكامل»:

«نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (?)!!

وقد قدّمنا أن هذا النوع هو أشرف أنواع الوحى، فلا غرو أن يكون للوحى القرآنى منه حظ معلوم.

بيد أن فريقا من العلماء قد قرر- بعد التسليم بهذا الوحى القرآنى الشفاهى لما مر من الأدلة- أنه يجوز أن يكون جبريل عليه السلام- قد نزل بهذه الآيات التى أوحى بها مشافهة مرة أخرى على سبيل التأكيد والتقرير، فتكون مما تكرر نزوله، ومن ثم تتقرر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015