وقال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [يوسف: 40] , وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في الاستقلال بالتشريع, وأنه محسن ومقبح في دين الله، فابتدعوا في دين الله ما ليس منه. ومما لاشك فيه أن العقل يدرك الحسن والقبح في الجملة, لكنه لا يستقل بالحكم دون الشرع كما تقوله المعتزلة، ومن تحكيم العقل المجرد أن الخمر لما حرمت، ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو يشربها. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [المائدة: 93]. الآية. تأولها قوم - فيما ذكر - على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله فِيمَا طَعِمُواْ فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه قال: (شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ الآية. قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إليَّ قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: نرى أنهم قد كذبوا على الله, وشرعوا في دينه ما لم يأذن به, فاضرب أعناقهم، وعلي رضي الله عنه ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به. فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين) (?).
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب، وشهد فيهم علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة، بأنهم شرعوا في دين الله وهذه البدعة بعينها فهذا وجه.
وأيضاً فإن بعض الفلاسفة الذين ظهروا بين المسلمين تأول فيها غير هذا وهو أنه إنما يشربها للنفع لا للهو، وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية النافعة, أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة. ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء (?).
قلت: وقد قلد ابن سيناء وغيره من الإباحيين كثير من الناس في هذا العصر بتعاطي المخدرات والمفترات والتي هي أخطر من الخمر في تأثيرها على الصحة, والعقل, والمال, والدين قبل كل شيء. يروجونها بدعوى أنها منشطة, ومنسية للهموم والأحزان، وهي لا تزيدهم إلا هماً وغماً، كما قال فيها الشاعر: (وداوني بالتي كانت هي الداء) (?). وإن كثيراً من بلاد المسلمين تبيح قوانينها شرب الخمور, وتعاطيها دون حياء أو خجل أو خوف من الله عز وجل. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر, والحرير, والخمرة, والمعازف)) (?).
ولو نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم لوجدنا أن هذه الأمور قد استحلت, بل يعطى أصحابها تراخيص رسمية بموجب القانون. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومما له تأثير على العقل أيضاً أن بعض المبتدعة تحولوا في ذكرهم لله إلى حالة من الرقص والغناء مصحوبة بآلات الطرب واللهو، فربما رقصوا بدعوى الذكر حتى تغيب عقولهم, ويصيبهم الزار, فيقعون على الأرض, ويزعمون أنهم سكروا في حب الله عندما تذهب عقولهم تحت تأثير هذا الرقص والغناء. فإنا لله وإنا إليه راجعون.