إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته. وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى، وصحَّحَها، ومنع عن المدينة الطاعون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون، فأمسكت الحمّى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام)) (?).
وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة.
7 - بشارات جامعة:
وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه، وأخبار أمته، وما ينزل إليه عليهم من نصره، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال.
قال دانيال (?) يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبياً، ومنزل عليهم كتاباً، ومملكهم رقابكم، يقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب، معهم الملائكة على خيل بيض، فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم النار، نعوذ بالله من النار). وأبناء قيدار بن إسماعيل، قد انتشروا في الأرض، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم: (ستنزع في قسيّك إغراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد).
وقال دانيال أيضاً: (سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم، ويردّ إليهم ملكهم، ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليكم يا دانيال، إن الله يقول: إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب. فصلَّت عليهم بخت نصّر، فقتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وهدم مساجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم، ولا مقيلهم عثرات، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها، وأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البرَّ شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء، حتى يعلو، فأدنيه، وأسلِّم عليه، وأوحي إليه، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادقاً فيما أخبر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه، ويؤذونه).