إلا أن في هذا التوجيه نظراً, فالله عز وجل لما أخبر أنه فضل بعض النبيين على بعض في آية الإسراء، وبعض الرسل على بعض في آية البقرة، جعل يعين في الآيتين بعض المتفاضلين ويذكر بعض الوجوه التي فضلوا بها، فعمم ثم خص كما هو ظاهر من لفظ الآيتين وقد تقدم ذكرهما مراراً (?).
وقد عين الله عز وجل أولي العزم بالذكر وفضلهم على بقية الأنبياء – كما تقدم -، والرسل أفضل من الأنبياء كما دل عليه الدليل واتفق عليه العلماء، فالرسول أفضل من النبي وفي هذا تعيين كما هو ظاهر، أما الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) فهو دال على التعيين أيضاً، إذ ثبوت كونه صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء جملة دليل كونه أفضل من كل واحد منهم مفصلاً، هذا مع قيام دليل على التعيين فلقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس، وهذا شاهد على التعيين، فالمراد بالنهي إذاً غير هذا الوجه.
4 - أن المراد بالنهي المنع من التفضيل من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها فهم متساوون فيها, وإنما التفاضل بالخصائص والمحن ونحوها (?). قال القرطبي: (وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآيات والأحاديث من غير نسخ) (?).
وقال ابن قتيبة في حديث ((لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)): (ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملاً مني, ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة) (?).
5 - أن المراد بالنهي منع التفضيل من عند أنفسنا لأن مقام التفضيل إنما هو إلى الله (?)، وروي عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه كان يمنع من المفاضلة بين الأنبياء مع قوله بأن بعضهم أفضل من بعض وأن محمداً أفضلهم, لكنه يقول ليس تعيين التفضيل إلى أحد منا (?).
6 - أن المراد بالنهي منع التفضيل بمجرد الآراء والعصبية (?). وهذا قد يؤول إلى سابقه.
7 - أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر (?). وذلك في مثل الحال التي تحاكم فيها اليهودي مع الأنصاري عند النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة فهذا التوجيه ملائم لسبب ورود الحديث.
8 – أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى توهم النقص في المفضول, أو الغض منه, والإزراء به (?).
قال الخطابي في النهي الوارد: (معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم, ويفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم) (?). وممن قال بهذا التوجيه ابن تيمية رحمه الله وعليه حمل حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور (?). وهو لائق بحديث: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)).