القاعدة السادسة عشرة: التوقف عند الإيهام، والاستفصال عند الإجمال

إذا أورد المنازع لفظاً مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً، لم يكن لنا إثبات اللفظ أو نفيه، بل الواجب التوقف، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا لقصور أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن اللفظ مجمل، والعبارة موهمة مشتملة على الحق والباطل، ففي إثباتها إثبات الحق والباطل، وفي نفيها نفي الحق والباطل، فالواجب الامتناع عن كلا الإطلاقين، ثم الاستفسار عن مراد صاحبها بها فإن أراد بها حقاً قبل، وإن أراد بها باطلاً رد (?).

وبعد اختيار المعنى الصحيح المراد من العبارة الموهمة، يمنع من إطلاقها ويركب للمعنى لفظه الشرعي، حتى ينتفي عنه الإيهام والإجمال:

مثال ذلك: لفظ الجهة لله تعالى (?):

فلو سأل سائل: هل تثبتون لله تعالى الجهة؟

الجواب: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لا إثباتاً ولا نفياً وهو لفظ مجمل محتمل، ويغني عنه ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله تعالى في السماء.

أما الجهة فقد يراد بها جهة سفل، أو جهة علو تحيط بالله تعالى، أو جهة علو لا تحيط به:

أما المعنى الأول فباطل، لمنافاته العلو لله تعالى الثابت بالكتاب, والسنة, والإجماع, والعقل, والفطرة.

والثاني باطل – أيضاً – لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.

وأما المعنى الثالث: فحق يجب إثباته وقبوله، لأن الله تعالى هو العلي الأعلى، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.

يقول طاش كبرى زاده في أصول المناظرة (?):

وليجتنب فيها عن الإطناب ... ثم عن الإيجاز والخطاب

إلى رفيع القدر والمهابة ... وعن كلام شابه الغرابة

ومجمل من غير أن يفصلا ... كذا تعرض لما لا مدخلا

ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف النهي عن إطلاق النفي أو الإثبات في مثل هذه المواطن:

قال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا سأل الجهمي فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ قيل له: وإن الله جل ثناؤه لم يقل في القرآن: إن القرآن أنا ولم يقل: غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سماه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم غيره كان من الضالين) (?).

وفي كتاب السنة للخلال (?): سئل الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: (أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه).

وقال الأوزاعي: (ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء, والقدر, والخلق, والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قال ابن تيمية: (فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة ... وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفى الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه، إذ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحاً، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل) (?) وكذلك إثباته قد يقتضي إثبات الحق والباطل، والصواب الإعراض عنه، أو التفصيل في الجواب.

ومثال آخر لمنهج السلف في هذه المسألة، ما أورده الإمام الذهبي في كتاب (العلو) (?) من كلام أبي بكر محمد بن الحسن الحصري القيرواني الذي ساق أقوال جماعة من العلماء في مسألة الاستواء، ثم قال: (وهذا هو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد, ولا تمكن في مكان, ولا كون فيه ولا مماسة).

قال الذهبي معلقاً على ذلك: (سلب هذه الأشياء وإثباتها مداره على النقل، فلو ورد شيء بذلك نطقنا به، وإلا فالسكوت والكف أشبه بشمائل السلف) (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015