إذا تكلم المخالف باصطلاحه الخاص الذي اصطلحه مخالفاً به ما عليه الشرع من الألفاظ؛ فقد يعبر عن المعاني التي أثبتها الشرع بعبارات أخرى ليست فيه، أو أنها فيه لكن جاءت بمعان أخر، بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفياً باطلاً نفاه الشرع والعقل (?): كلفظ التوحيد عند الطوائف المنحرفة:
فالتوحيد عند الفلاسفة يعنون به إثبات الوجود المطلق، مجرداً عن الماهية والصفة.
وعند الاتحادية وأصحاب وحدة الوجود: أن الرب تعالى هو عين كل موجود.
وعند الجهمية: التوحيد هو إنكار صفة العلو لله تعالى, والكلام, والسمع, والبصر, وغير ذلك من الصفات التي ثبتت بالسمع ودل عليها العقل.
وعند القدرية: إنكار قدر الله وعموم مشيئته في الكائنات وقدرته عليها.
ويدخل في ذلك -أيضاً- نحو التكلم بالألفاظ المجملة كلفظ الجهة، والحيز والمكان، والجسم وغير ذلك.
فيبقى المخاطب لهم والراد عليهم متردداً بين أمور:
الأول: أن يخاطبهم بغير اصطلاحهم، بل بالألفاظ والمعاني الشرعية، فحينئذ قد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا ومرادنا، ويلبسون على الناس، بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق، وأنه موافق للشرع.
الثاني: أن يخاطبهم بلغتهم واصطلاحهم – وقد يكون ذلك مخالفاً لألفاظ القرآن في الظاهر – فحينئذ قد ينسبون المخاطب لهم إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم الخاص.
الثالث: أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بها نفياً وإثباتاً، بل يستفصل عن مرادهم: فإن أرادوا بهذه الألفاظ حقاً قبل، وإن أرادوا باطلاً رد، وهنا قد ينسبونه إلى العجز والانقطاع (?):
فحينئذ تختلف المصلحة؛ فيختار المخاطب لهم، الأسلوب الأمثل في مخاطبتهم والرد عليهم، وذلك بحسب ما يقتضيه المقام (?):
فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك.
ومثل هذا فعله شيوخ السنة بين يدى ولاة الأمور في مناظراتهم لرؤوس المعتزلة والجهمية (?).
أما إن كان المخالف معارضاً للشرع بما يذكره، أو كان غير ملتزم بالشريعة: فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وإن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم، ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم، أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة ... ) (?).
فمخاطبة أهل الاصطلاح بلغتهم واصطلاحهم يفيد من وجوه:
الأول: أنهم يفهمون الحجة.
الثاني: أن ذلك أبلغ في الرد عليهم، وكسرهم.
الثالث: بيان تمكن أهل الحق من معاني مسائلهم وعرضها بأي أسلوب يقتضيه الموقف.
وقد استعمل شيخ الإسلام هذا الأسلوب في كثير من مصنفاته التي فيها الرد على أهل البدع والفلسفة، مثل كتاب درء التعارض، والرد على المنطقيين، وكذلك رأيت الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله يستخدم المنطق في الرد على من يؤمنون به، وذلك في تفسيره أضواء البيان (?).