القاعدة الثالثة عشرة: الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات

وهي خاصة العقل الصحيح, وصفة الفطرة السليمة، وعليها قامت أحكام الشرع، فالشيء يعطى حكم نظيره، وينفى عنه حكم مخالفه، ولا يجوز العكس بحال: وهو أن يفرق بين متماثلين أو يجمع بين مختلفين:

قال الله تعالى في ذم اليهود: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وذلك أنهم أغفلوا حكم التوراة في سفك الدماء وإخراج أنفسهم من ديارهم، وأقاموه -أي حكم التوراة- في مفاداة الأسرى (?) وكان الواجب عليهم إقامته في شأنهم كله.

وقال تعالى: في شأنهم –أيضاً-: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91] فكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع ما فيها من التصديق لما معهم من التوراة والإنجيل، والجميع يخرج من مشكاة واحدة؛ فكان الكفر ببعض ذلك كفراً بالجميع وجحداً له (?).

هذا في جانب التفريق بين المتماثلات، أما في جانب الجمع بين المختلفات، فقد قاس اليهود الرب (جل جلاله) على المخلوق الضعيف القاصر، فوصفوه (سبحانه) بصفات المخلوقين، فقالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181] وقالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ [التوبة: 30] وفيه إثبات الصاحبة والولد وهي من صفات المخلوقات، ويشركهم في ذلك النصارى القائلون: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ [التوبة: 30].

فكل من فرق بين متماثلين, أو جمع بين مختلفين من مبتدعة المسلمين يكون فيه شبه من اليهود والنصارى، وهم إمامه وسلفه في ذلك:

فنفاة الصفات: بعضها أو جميعها، أو الصفات دون الأسماء، أو الصفات والأسماء جميعاً، فرقوا بين المتماثلات, إذ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر نفياً وإثباتاً، وكذلك القول في الصفات كالقول في الأسماء، وكذلك القول في الصفات والأسماء فرع عن القول في الذات (?).

وهم –أيضاً- قد جمعوا بين المختلفات، لأنهم لم يعتقدوا التعطيل إلا بعد أن قامت عندهم شبهة التشبيه، ولهذا كان كل معطل مشبهاً.

ونفاة القدر فرقوا بين المتشابهات والمتماثلات من وجه؛ حيث اعتمدوا النصوص التي تثبت قدرة العبد ومشيئته، وأنكروا النصوص التي تثبت قدرة الخالق, ومشيئته, وخلقه, وسابق علمه، وجمعوا بين المختلفات من وجه؛ حيث قاسوا المخلوق بالخالق, وجعلوهما سواء فيما يجوز, ويجب, ويمتنع. قال ابن قتيبة رحمه الله: (ألا ترى أن أهل القدر حين نظروا في قدر الله الذي هو سره بآرائهم, وحملوه على مقاييسهم؛ أرتهم أنفسهم قياساً على ما جعل في تركيب المخلوق من معرفة العدل من الخلق على الخلق، أن يجعلوا ذلك حكماً بين الله وبين العبد، فقالوا بالتخلية والإهمال، وجعلوا العباد فاعلين لما لا يشاء، وقادرين على ما لا يريد, كأنهم لم يسمعوا بإجماع الناس على: ما يشاء الله كان وما لا يشاء لا يكون) (?).

والوعيدية من الخوارج والمعتزلة فرقوا بين نصوص الوعيد فآمنوا بها، وبين نصوص الوعد فكفروا بها، والجميع يخرج من مشكاة واحدة، وفي المقابل المرجئة آمنوا بنصوص الوعد, وكفروا بنصوص الوعيد.

والشيعة فرقوا بين الصحابة رضوان الله عليهم، فتولوا آل البيت منهم وعادوا غيرهم، والواجب موالاتهم جميعاً. وجمعوا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره في إثبات العصمة، حيث ساقوها في أئمتهم، والواجب التفريق في ذلك بين الرسل وغيرهم من الناس.

وممن خالف هذه القاعدة – أيضاً – من فرق بين الكتاب والسنة فاعتمد الكتاب دون السنة، وكذلك من فرق بين نصوص الأحكام فاعتمدها، وبين نصوص العقائد فأعرض عنها بتأويل أو تفويض، أو تكذيب إن كانت أحاديث آحاد، وكذلك من فرق بين السنة والمتواترة وسنة الآحاد في باب العقائد أو الأحكام.

فكل هؤلاء واقعون في التناقض والاضطراب، والواجب عليهم الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات حتى يسلموا مما هم فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015