فهذه الرواية أيضاً من قبل هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وهو عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد تطرقت لهذا السند بالنقد فيما قبل، فلا أعيده هاهنا، وإنما المقصود بيان كونه قولاً ضعيفاً للغاية.
القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح.
ويستدل لهذا القول بما يلي:
1 - قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 22]، والدليل على أن هؤلاء المذكورين كانوا في قوم نوح؛ الروايات الحديثية التي وردت في تفسير الآية.
من أشهرها: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت) (?).
وما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: (كانوا قوما صالحين – يغوث ويعوق ... – بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم) (?).
2 - قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213].
ويتضح وجه الاستدلال من الآية لمن اطلع على تفسيرها، وقد سبق معنا بيانه فيما قبل.
3 - ويدل عليه أيضاً: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (?).
4 - وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح – عليهما السلام – عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض).
5 - وعن عكرمة قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (?).
فهذه أقوال صحيحة عن سلف هذه الأمة في بيان بداية الشرك في بني آدم، وهي ترجح هذا القول الرابع؛ بأن بداية الشرك كان في قوم نوح، وقبل هذا كانوا على الإسلام.
ومن غرائب ما في هذا الباب نسبة وجود الشرك في آدم – عليه السلام – استدلالاً بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 189، 190].