إن مما لا خلاف فيه أن أول شرك وقع في العباد هو شرك الشيطان. قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29]:
قال ابن جريج: (من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس).
وقال قتادة: (إنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس، لما قال ما قال لعنه الله، وجعله رجيما) (?).
وقال الضحاك في قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ: (يعني من الملائكة إني إله من دونه، قال: ولم يقل أحد من الملائكة إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر) (?).
فهذا أول شرك وقع على الإطلاق – فيما أعلم -، ولكن متى وقع أول شرك في بني آدم؟ اختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل، وقد حكى الإمام الطبري في تاريخه رواية تدل عليه؛ وهي (ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار؛ لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها) (?).
فهذا القول نرى الإمام الطبري نقله بدون سند، بل صدره بقوله: (ذكر) بصيغة التمريض، مما يدل على ضعفه عنده، وهو في نفسه ضعيف، كما سيأتي بيان ما يخالفه من القول الصحيح.
القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائل، وهو أبو إدريس عليه السلام، وقد حكاه أيضاً ابن جرير في تاريخه، فقال: (حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام) (?).
ففي هذا السند نرى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وهما ضعيفان بل متهمان، ولا يقبل منهما، خصوصاً أن هذه الرواية خالفت الرواية الصحيحة – كما سيأتي -، ثم إن الكلبي هنا يروي التفسير عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع منه شيئاً، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتاب، فكيف الاحتجاج به؟ (?).
والمقصود: أن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج.
القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل.
وتدل عليه رواية ابن الكلبي في كتاب الأصنام، قال فيها: أخبرني أبي قال: (أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات، جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند). ثم روى عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (وكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل! إن لبني شيث دواراً يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء. فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها) (?).