وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَمَرَ مَثَلًا بِالصَّمْتِ عَمًّا لَا يَعْنِي؛ فَإِنْ كَانَ صَامِتًا عَمًّا لَا يَعْنِي فَفَتْوَاهُ صَادِقَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَائِضِينَ فِيمَا لَا يَعْنِي فَهِيَ غَيْرُ صَادِقَةٍ1، وَإِذَا دلَّك عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ زَاهِدٌ فِيهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ كَاذِبَةٌ، وَإِنْ دلَّك عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَيْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ سَائِرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَوَامِرِ، وَمِثْلُهَا النَّوَاهِي؛ فَإِذَا نَهَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَهِيًا عَنْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، أَوْ نَهَى عَنِ الْكَذِبِ وَهُوَ صَادِقُ اللِّسَانِ، أَوْ عَنِ الزِّنَى وَهُوَ لَا يَزْنِي، أَوْ عَنِ التَّفَحُّشِ وَهُوَ لَا يَتَفَحَّشُ، أَوْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْأَشْرَارِ وَهُوَ لَا يُخَالِطُهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الْفُتْيَا وَالَّذِي2 يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ وَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ الْقَوْلِ مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ الصِّدْقُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه} 3 [الْأَحْزَابِ: 23] .
وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التَّوْبَةِ: 75-77] .
فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الْفِعْلَ، وَفِي الْكَذِبِ مُخَالَفَتُهُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} 4 [التوبة: 119] .