بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ عَوَّلَ مَنْ شُهِرَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَبِذَلِكَ سَادُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ فِي الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ حَازَ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبًا فَافْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوَقَائِعِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ؛ فَأَجْرَوْهَا بِالْأُصُولِ الْأُولَى عَلَى حَسَبِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَأَجْرَوْهَا بِالْفُرُوعِ الثَّوَانِي حِينَ اضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ؛ فَعَامَلُوا رَبَّهُمْ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا1 إِلَّا الْمُوَفَّقُ الْفَذُّ، وَهُوَ كَانَ شَأْنَ مُعَامَلَاتِ الصَّحَابَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ السِّيَرِ.
وَلَمْ تَزَلِ الْأُصُولُ يَنْدَرِسُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَالتَّفْرِيعِ فِيهَا؛ حَتَّى صَارَتْ كَالنَّسْيِ الْمَنْسِيِّ، وَصَارَ طَالِبُ الْعَمَلِ بِهَا كَالْغَرِيبِ الْمُقْصَى عَنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "بَدَأَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" 2.
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْكُلِّيَّاتِ يُشَارِكُ الْجُمْهُورُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ وَاسْتِقْرَاءُ مَا تَقَدَّمَ من الشريعة يبينه.