فَصْلٌ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ آخِذِينَ بِمُقْتَضَى التَّنْزِيلِ الْمَكِّيِّ عَلَى مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ وَاحْتِيَاطُهُمْ؛ فَسَبَقُوا غَايَةَ السَّبْقِ حَتَّى سُمُّوا "السَّابِقِينَ" بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَحِقَهُمْ فِي ذَلِكَ السَّبْقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَمُلَتْ لَهُمْ بِهَا شُعَبُ الْإِيمَانِ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَصَادَفُوا ذَلِكَ وَقَدْ رَسَخَتْ فِي أُصُولِهَا أقدامهم فكانت المتمات أَسْهَلُ عَلَيْهِمْ؛ فَصَارُوا بِذَلِكَ نُورًا حَتَّى نَزَلَ مَدْحُهُمْ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ فِي الدِّينِ أَئِمَّةً؛ فَكَانُوا هُمُ الْقُدْوَةُ الْعُظْمَى فِي أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، بَلْ زَادُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَمْعَنُوا فِي الِانْقِيَادِ لِمَا حُدَّ لَهُمْ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مَعًا.
لَمْ تُزَحْزِحْهُمُ الرُّخْصُ الْمَدَنِيَّاتُ عَنِ الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ الْمَكِّيَّاتِ، وَلَا صَدَّهُمْ عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مَا مُتِّعُوا بِهِ مِنَ الْأَخْذِ بِحُظُوظِهِمْ وَهُمْ مِنْهَا فِي سَعَةٍ {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 105] .
فَعَلَى1 تَقْرِيرِ2 هَذَا الْأَصْلِ مَنْ أَخَذَ بِالْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَاسْتَقَامَ فِيهِ كَمَا اسْتَقَامُوا فَطُوبَى لَهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْأَصْلِ الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى