الحكمة الثالثة: أن النوع الإنساني يتقلب كما يتقلب الطفل في
مراحل مختلفة، ولكل مرحلة حال تناسبها، فالبشر أول عهدهم
في الوجود كانوا كالوليد في السذاجة والجهالة والبساطة، ثم بدأ
التطور شيئاً فشيئاً، وفي أثناء هذا التطور مرَّتْ عليهم أعراض متباينة
ومتفاوتة، فاقتضى ذلك وجود شرائع مختلفة لهم، فلما نضج هذا
العالم واستوى جاء هذا الدين الحنيف خاتما للأديان كلها، ومتممًا
للشرائع، وجامعاً لمصالح العباد والبلاد، فهو بحق دين عام وخالد
إلى قيام الساعة.
أما النوع الثاني - وهو: نسخ بعض الأحكام ببعض في شريعتنا -
فله حِكَم، ومنها:
الحكمة الأولى: تهيئة نفوس الناس إلى تقبل الحكم الأخير، بيان
ذلك:
أن الناس قبل مجيء الإسلام في جاهلية تعمها الفوضى، وعدم
الانضباط بأنظمة وأحكام وقيود، فاقتضت حكمة الشارع ألا ينقلهم
دفعة واحدة إلى ما يستقر عليه التشريع آخر الأمر، بل إن اللَّه تعالى
سلك بهم طريق التدريج في التشريع من الأخف إلى الأشد، من
أجل أن تتهيأ نفوسهم إلى تقبل حكمه النهائي، فيأتي ذلك الحكم
وهم على أتم الاستعداد لتقبله والعمل به؛ إذ لو ألزمهم بالأحكام
النهائية من أول وهلة لأدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام، والقضاء
على الإسلام في مهده.
ومن أمثلة ذلك: تشريع الصلاة، فقد شرعت الصلاة أولاً
ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، ثم شرعت خمسا ركعتين
ركعتين عدا المغرب فقد كانت ثلاثا، ثم أقرت تلك الصلاة في
السفر، وزيد في الحضر، فجعلت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء.