(وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه) أي لم يفعل كما فعل زميله الأول فترك المزاحمة حياء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، أو المراد أنه لم يفعل كما فعل زميله الثالث أي استحيا من الذهاب عن المجلس، يشير إلى هذا المعنى رواية الحاكم ولفظها "ومضى الثاني قليلا، ثم جاء فجلس".
(وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) أي أعرض عن مجلس العلم وانصرف عنه، فعامله الله تعالى وجزاه على إساءته إعراضا عنه، وصرفا لرحمته ورضوانه عنه، والإعراض في الأصل انصراف النفس عن الشيء وعدم التوجه إليه، ففي الكلام مشاكلة ومقابلة، كقوله تعالى {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وقد وصف إعراض الله تعالى في حديث "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ... " الحديث. فالمراد من الإعراض الإهمال، وعدم الإحسان.
-[فقه الحديث]-
لم يتعرض الحديث بالنسبة للذين جلسا في مجلس العلم إلى تسليمهما، هل سلما؟ فرد عليهما السلام؟ أو لم يسلما؟ ولا إلى أنهما صليا تحية المسجد أو لم يصليا؟ وقد تناول العلماء هاتين النقطتين بالتأويل والتوجيه، فقيل: لعلهما سلما، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة السلام، أو أنهما سلما، ولم يرد أحد عليهما، لأن المشتغل بالعلم، المستغرق في العبادة لا يجب عليه الرد ولم ينقل إلينا هذا أو ذلك لشهرته، وعدم الحاجة إلى الإخبار به، وقيل: لعلهما لم يسلما اعتمادا على عدم مشروعية السلام على المشتغل بالعلم. وعلى كلا الجوابين لا مؤاخذة عليهما. إذ لو أتيا ما يلامان عليه لنبههما صلى الله عليه وسلم وعلمهما، فلا وجه لهذا الإشكال أساسا، أما الإشكال الثاني فقد قيل: لعلهما كانا على غير وضوء، ورد بأنه لو كان كذلك لنبههما صلى الله عليه وسلم فاعتذرا ولم ينقل إلينا شيء من ذلك، وقيل: لعل دخولهما كان في وقت كراهة التنفل، ويرده الشافعية بأن تحية المسجد لا تكره في أي وقت، وقيل: لعلهما صليا، ولم ينقل إلينا لاهتمام الرواة بغير ذلك من القصة،