وقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: لَيسَ الآمِرُ النَّاهِي عِنْدَنا مَنْ دَخَلَ عَلَيهِم (السَّلاطِينِ) فأمَرَهُم ونَهَاهُم، إنَّمَا الآمِرُ النَّاهِي مَنِ اعْتَزَلهم!
وسَبَبُ مَا يُخْشَى مِنْ فِتْنَةِ الدُّخُوْلِ عَلَيهِم، فإنَّ النَّفْسَ قَدْ تُخَيِّلُ للإنْسَانِ إذَا كَانَ بَعِيدًا أنَّه يَأمُرُهُم ويَنْهاهُم ويُغْلِظُ عَلَيهِم، فإذَا شَاهَدَهُم قَرِيبًا مَالَتْ النَّفْسُ إلَيهِم، لأنَّ مَحبَّةَ الشَّرَفِ كَامِنَةٌ في النَّفْسِ لَهُ، ولِذَلِكَ يُدَاهِنُهُم ويُلاطِفُهُم، ورُبَّمَا مَالَ إلَيهِم وأحَبَّهُم، ولا سِيما إنْ لاطَفُوْه وأكْرَمُوْه، وقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُم، وقَدَ جَرَى ذَلِكَ لعَبْدِ اللهِ بنِ طَاوُوْسٍ مَعَ بَعْضِ الأمَرَاءِ بِحَضْرَةِ أبِيه طَاوُوْسَ فَوَبَّخَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ.
وكَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إلى عَبَّادِ بنِ عَبَّادٍ، وكَانَ في كِتَابِهِ: "إيَّاكَ والأُمَراءَ أنْ تَدْنُو مِنْهُم، أو تُخَالِطَهُم في شَيءٍ مِنَ الأشْيَاءِ.
وإيَّاكَ أنْ تُخْدَعَ ويُقَالُ لَكَ: لتَشْفَعَ وتَدْرَأ عَنْ مَظْلُوْمٍ أو تَرُدَّ مَظْلَمَةً، فإنَّ ذَلِكَ خَدِيعَةُ إبْلِيسَ، وإنَّمَا اتَّخَذَها فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلَّمًا، ومَا كُفيتَ عَنِ المَسْألَةِ والفُتْيا فاغْتَنِمْ ذَلِكَ، ولا تُنَافِسْهُم" (?) انْتَهَى.