يقول عليه الصلا والسلام: (لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة (?)) وتحرك بقوته لعسفان، ولم يكتف بهذا الأمر بل أقدم على خطوة أشد خطورة، فبعث أبا بكر رضي الله عنه إلى كراع الغميم التي تبعد عن مكة أميالا عدة في عشرة فوارس. وكان الهدف واضحا من هذا التحدي كما تقول رواية الواقدي:

(إن هذا يبلغ قريشا فيذعرهم، ويخافون أن نكون نريدهم. وكان خبيب بن عدي يومئذ في أيديهم. فخافوا أن يكون جاء ليخلصه (?).

وإن كان الهدف الثاني لم يتحقق، من حيث الأخذ بالثأر المادي من بني لحيان. لكن الخوف الذي لزم بني لحيان، جعلهم يشعرون بخطورة المسلمين في المنطقة.

ولم يكن إختيار أبي بكر بهذه الفوارس العشرة ليمضي إلى كراع الغميم، اختيارا عشوائيا.

بل كان مرتبطا بالهدف ارتباطا وثيقا. فأبو بكر المهاجر ابن مكة. يعرف القاصي والداني في الأرض الحجازية. وليس نكرة عند أهل كراع الغميم. بل هو الصاحب الأول لمحمد رسول الله.

ويكفي أن نذكر أن بين الخندف التي كان المسلمون فيها محاصرون. وبين بني لحيان التي تحول المؤمنون فيها إلى مهاجمين أقل من خمسة أشهر. وهذا يعني التنفيذ العملي للكلمة الخالدة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

وهذه دروس عميقة للحركة الإسلامية. فالقيادة حين تعلن هدفا أو موقفا، أو تعد بعملية معينة. وتتلكأ في التنفيذ تفقد ثقة قواعدها بها، وتزلزل طبيعة العلاقة بين طرفي الجماعة المسلمة. فالتجسيد العملي للكلمة هو الذي يكسب احترام العدو والصديق.

صحيح أن هذه الغزوة لم تحمل في ثناياها أنباء انتصارات عسكرية حاسمة. لكنها أصابت كبد العدو، وبثت الذعر في قلبه، وغزته في عقر داره ومن جهة ثانية، رفعت معنويات الجيش المسلم، وأعادت إليه الثقة في نفسه بعد الحرب الطاحنة في غزوة الخندق.

وانتصار المسلمين في بني قريظة. رغم رفعه المعنويات الضخمة للمسلمين. لكنه لم ينه عقدة التفوق القرشي عندهم، وكانت هذه الغزوة كفيلة بمحو هذه العقدة.

ودرس آخر تحتاجه الحركة الإسلامية اليوم، هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافق الحملة إلى عسفان، التي تبعد أميالا عن مكة. وهو الهدف الأول من العدو، وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يبعث في هذه الغزوة مئات بل ألوفا من أصحابه. لكنه مع ذلك آثر أن يرافق الحملة بنفسه، لرفع معنويات أصحابه كذلك، ودفع بأعز القادة عنده إلى كراع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015